تقول الشاعرة كوليكا بوتوما:
"قبل أن نُولد تدفننا هذه البلاد
تنادينا بأسماء أوراق نعْينا
قبل أن تُنادينا بأسمائنا".
خلال اليومين الماضيين، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي فيديو مؤلماً وصادماً لجثمان نيرة أشرف، طالبة المنصورة التي قُتلت غدراً على يد زميلها، حيث ظهر جثمان الفتاة بعد وقوع الحادث بلحظات وعليه آثار دماء غطّت ملابسها بالكامل.
لا يوجد أي وصف لمسألة نشر صور وفيديوهات لفتاة قُتلت غدراً لإثبات أي رغبات أو ادعاءات، غير أنها مسألة غاية في الدناءة. بدقة شديدة حدد أديبنا العظيم نجيب محفوظ آفة بلادنا وهي النسيان. فبمجرد أن تنتهي بشاعة، نعتقد لو أنّ بشاعة أخرى لن تبدأ أبداً. فتبدأ بشاعة جديدة كما لو أن بشاعات قديمة لم تنتهِ قط. في بلد يعاني أغلب مواطنيه من ثقل قمع الدولة، لا يمكن تخيل سقف للبشاعات.
لكن ما يستدعى الانتباه في قضية قتل "نيرة أشرف"، هو وجود أعداد ليست بالقليلة تدين الضحية وتستعطف المنطق المشوه لجلب التعاطف والدعم للقاتل المجنون. ما يستدعي الذعر أيضاً، تجاهر وتعالي أصوات هذه الأعداد مُتخذين إطاراً جماعياً، وصلت به الحقارة للدعوة إلى جمع أموال من أجل دفع تكاليف أشهر محامٍ للمجرمين "فريد الديب"، للدفاع عن القاتل.
ولا تقف البشاعة عند تلك الدعاوى. بل امتدت أصوات أخرى، تقترح دفع دية لأسرة نيرة أشرف، من أجل التنازل، وفقاً لما ذكرته مصادر إعلامية، في سبيل إنقاذ مستقبل الفتى العاشق، الذي لم تتخط مستويات عنفه عتبة البيت كضرب أمه وشقيقاته ليس إلا. لا توجد هنا مبالغة أو استحضار قضايا في غير محلها، فدرجات العنف بكل أنواعها أصبحت مستساغة ومقبولة اجتماعياً.
ناقوس خطر
بحسب بيانات جهاز التعبئة والإحصاء واليونيسيف، ومؤسسة إدراك للتنمية والمساواة، تم تسجيل 813 حالة عنف ضد المرأة في مصر خلال عام 2021، بزيادة 96% على العام 2020. منهم 296 حالة قتل لنساء وفتيات من مختلف الأعمار، و78 حالة شروع قتل، و54 حالة اغتصاب، و74 جريمة ضرب، منها 49 جريمة ضرب من أفراد أسرة المرأة نفسها، و125جريمة تحرش جنسي، و100 واقعة انتحار أغلبها بسبب المشاكل والعنف الأسري والابتزاز الجنسي والضرب أو التعنيف على التحصيل الدراسي. هذه الأرقام تقتصر على رصد الحالات المعلنة فقط للعنف ضد المرأة داخل المنزل. بينما إذا توسعنا لنرصد زيادة العنف كظاهرة داخل المجتمع، فلا داعي لدراسات. فسريعاً يمكننا تتبع عناوين الأخبار لنجد شاباً قد قتل والدته وشقيقه في المطرية، وآخر ذبح زوجته في الأميرية. وربما بالصدفة نجد من يتجول بجانبنا في الشارع، حاملاً رأس صديقة بعد أن قطعها.
وهذا بخلاف تراجع أرقام تماسك الأسرة. فقد ارتفع عدد شهادات الطلاق في مصر خلال عام 2020 إلى 222 ألفاً، مقارنة بـ199 ألفاً عام 2015، أي بنسبة زيادة بلغت 12%، وبمعدل 26 طلاقاً كل ساعة.
لماذا يكثر في وادينا الرماة؟
يؤلمنا جميعاً كبشر، الكمّ الهائل من العنف. لكن لماذا يتصرف مجتمعنا المصري بعكس طبيعته ويتخلى عن النبل؟ لماذا يكثر في وادينا الرماة أكثر من الورود؟ حيث يبرر بعضنا للوحوش كونهم وحوشاً، وتلوم الغزلان لكونهم على هذا القدر من الرقة؟
يمكن إرجاع هذه السيكولوجية المتوحشة والمستحدثة لتلك الحاضنة المجتمعية، إلى تراجع الثقافة. فقد أشار الفيلسوف والرئيس الراحل عزت بيغوفيتش في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"، إلى أهمية هذا المكون في المجتمعات الحية، حيث قال: "الثقافة هي تأثير الدين على الإنسان أو تأثير الإنسان على نفسه، بينما الحضارة هي تأثير الذكاء على الطبيعة أو العالم الخارجي. الثقافة معناها (الفن الذي يكون به الإنسان إنساناً)، أما الحضارة فتعني (فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعة دقيقة)، الثقافة هي (الخلق المستمر للذات)، أما الحضارة فهي (التغيير المستمر للعالم)، وهذا هو تضاد: الإنسان والشيء، الإنسانية والشيئية".
يتضح لنا أن الثقافة ليست رفاهية، بل المكون الرئيسي للتجمعات الحضارية. فالثقافة هي من ترسم ملامح المجتمع وتحدد سلوك البشر إلى حد بعيد. فالدين والفن والقيم والأفكار والأدب هي مكوِّناتٌ للثقافة. وبفضل السلطة العسكرية في مصر تم اغتيال الثقافة بشكل شديد، حيث احتلت الدولة غالبية منافذ إنتاج الثقافة الشعبية مثل الأفلام والمسلسلات، والأغاني، والروايات، والصحافة، والخطاب الديني، بهدف السيطرة على الشعب وتثبيت كرسي الرئيس.
وبالتالي أدى ذلك إلى ولادة شكل من أشكال التخبط في الهوية على المستوى الفردي، وتشوه على المستوى الجمعي في السلوك العام.
على سبيل المثال، تعمل منذ فترةٍ الدراما والسينما المصرية تحت إشراف المؤسسة العسكرية لإدارة الشؤون المعنوية. فتقتصر صورة الشاب المثالي، صورة الذَكر الجيد، ضابط المخابرات، الجيش ورجل الدولة القوي فقط. في مقابل ذلك إهمال تام لتصوير المجتمع ومشكلاته الحقيقية، والتقليل من باقي أنماط المجتمع المختلفة من الرجال والنساء بدون تفرقة. وعلى مستوى الرواية، نجد خوفاً من تناول الأفكار؛ لتجنب غضب السلطة. وعلى مستوى الترفيه والرياضات، تمنع التجمعات لأسباب أمنية. وبالنسبة للخطابات الدينية، فهي فارغة المحتوى، ولا يتعدى مضمونها كُتيب أذكار الصباح والمساء.
الخلاصة
نتيجة لذلك، يجد المجتمع نفسه أسير نمط ثقافي واحد فقير، لا يستعرض غير "القوة و الفحولة". ففي العقد الأخير تعرض المجتمع لتجريف ثقافي عنيف، بسبب هوس الدولة المصرية بالأمن. فعملت على إخفاء البدائل الثقافية الأخرى، كالإنتاجات الفنية المختلفة والحرة نسبياً، والتمثيلات السياسية الضئيلة، بجانب منع الدروس والتجمعات الدينية التي كانت تديرها جماعات عديدة. ومن خلال مقاربة لطرح الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه (المراقبة والمعاقبة)، يمكن رؤية كيف أن الدولة المصرية بفضاءاتها المؤسسية تسعى دائماً لمراقبة وضبط أجساد مواطنيها، ليكونوا خاضعين لسلطتها.
يُدفع الشعب تحت وطأة القمع والفقر إلى العيش في توتّر وعصبية، ورفع خوفهم وعنفهم إلى الدرجة القصوى.
حيث يشعر أغلب المصريين اليوم أكثر من أي وقت مضى، بأنهم عالقون في دواخلهم ومغتربون عن محيطهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.