عرفت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة لثلاث دول إفريقية، وهي كل من الكاميرون والبنين وغينيا بيساو، تلك الدول التي كانت مستعمرات قبل أن تتحرر من قبضة الاستعمار الأوروبي عموماً والفرنسي خصوصاً، إعلاناً من حكام ونخب تلك الدول الإفريقية على أن وقت العتاب قد مضى. بينما فرنسا لا تزال تعتبر القارة السمراء حديقتها الخلفية لأسباب غالباً ما كانت سياسية وجيو-سياسية واقتصادية وثڤافية، ومن ثم تستمر في فرض وصايتها على الشعوب الإفريقية.
عقيدة خلية فرنسا–إفريقيا
خلال عقود حكم اليمين الفرنسي منذ فترة حكم الجنرال شارل ديغول مروراً بالرئيس جورج بومبيدو إلى الرئيس جاك شيراك، كانت تدار العلاقات الفرنسية الإفريقية من داخل خلية "قصر الإليزيه" والتي كان يديرها عرّاب إفريقيا جاك فوكارت.
عرفت تلك الفترة علاقة خاصة ووطيدة بين فرنسا ومستعمراتها في القارة السمراء حيث خلقت خلية "قصر الإليزيه" أنظمة حكم تابعة لباريس في العديد من دول الساحل الإفريقي وغرب ووسط إفريقيا.
رغم تحررّ عدد كبير دول القارة السمراء من قبضة الاستعمار المباشر في ستينيات القرن الماضي بشكل رسمي، إلا أن جل الدول الإفريقية "المستقلة" بقيت بشكل ما "متفرنسة"، أي تحت التبعية الفكرية، سياسياً وثقافياً، لباريس. ما تسببّ في عدم استقرار وازدهار تلك الدول التي أخذت استقلالها "الرسمي" من فرنسا لكن الأخيرة جعلتها تركع لها في معادلة "غالب ومغلوب"، وكل من تجرأ وتمرد على تلك المعادلة كان مصيره إما الانقلاب العسكري أو الاغتيال أو التدخل العسكري بحجة حفظ الأمن والسلم أو الحرب ضد الإرهاب!
لكن أضحت هذه الحجج واهية في نظر الشعوب الإفريقية التي باتت تعبّر عن غضبها ضد سياسات وابتزازات باريس، خاصة دول الساحل الإفريقي، ولا سيما في جمهورية مالي التي أجبرت باريس على سحب قواتها العسكرية من البلاد نهائياً في أواخر شهر أغسطس الجاري، هذا بعد تسع سنوات مما سمته فرنسا الحرب المكثفة على الجماعات الإرهابية المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي.
أتى قرار سحب باريس قواتها العسكرية من مالي ونقل مقر عملية برخان إلى النيجر نتيجة ضغط السلطات العسكرية في باماكو في ظل تنامي مشاعر العداء تجاه فرنسا بالمنطقة، وطرد السفير الفرنسي في باماكو في يناير/كانون الثاني دليلاً آخر على ازدياد مشاعر العداء لكل ما هو فرنسي في المنطقة ككل، ما دفع بباريس إلى إعادة النظر في انتشارها العسكري والاستخباراتي بالمنطقة، ما قد يفتتح بداية النهاية لقصة الطغيان الفرنسي على إفريقيا.
العامل الجيو–سياسي والاقتصادي
التغيرات الجيو-سياسية الأخيرة في العالم نتيجة الحرب الروسية-الأوكرانية القائمة أفرزت تغييراً جذرياً في فن إدارة الصراعات وتموقع القوى الإقليمية الصاعدة والدولية في ظل نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.
وإفريقيا ليست ببعيدة عن تلك التغيرات العميقة في بنية النظام الدولي، فعرفت خلال الأسابيع الماضية اهتماماً دولياً لافتاً من طرف الدول العظمى، حيث قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بجولة لعدد من الدول الإفريقية من شمالها إلى غربها، تزامنت زيارة الوزير الروسي مع زيارة الرئيس الفرنسي للقارة السمراء. وكما كان متوقعاً وقع تراشق بعبارات قوية بين الوزير الروسي والرئيس الفرنسي، حيث اتهما بعضهما البعض. لكن التصريح الخطير جاء على لسان لافروف الذي صرح: "اتفقنا مع دول إفريقية على اعتماد العملات المحلية للتبادل التجاري المشترك".
ببساطة، هذا يعني نهاية هيمنة الفرنك الفرنسي الإفريقي؛ علماً أن موسكو وباريس أصبحتا المنافسين العسكريين الرئيسيين في المنطقة، خاصة بعد طرد السلطات المالية القوات الفرنسية والإعلان عن إنهاء عمليات "تاكوبا" و"برخان"، فاسحة المجال لمدربين عسكريين من الجيش الروسي ومرتزقة من دول إفريقية وعربية في مجموعة "فاغنر" المثيرة للجدل، وكأن روسيا تقول لفرنسا كفى: "التزمي حدودك".
إفريقيا بين الوعي والحذر
عرفت السنوات الأخيرة ظهور طبقة سياسية ونخب مشبّعة بالوعي الوطني متحدية مسار التبعية والاستلاب للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للكاميرون وبنين وغينيا بيساو، والذي تزامن مع أزمة الحبوب العالمية، أجبرت الرئيس الفرنسي أن يمحور زيارته حول ملف "الأمن الغذائي والعسكري" في القارة السمراء، محاولاً أن يستغل هذا الظرف الدولي العسير الذي تعرفه كثير من دول العالم ومنها الدول الإفريقية لإعادة تموضع الوجود الفرنسي الاستراتيجي في إفريقيا؛ وإعادة السمعة الدبلوماسية لفرنسا هذا بعد فقدانها لدورها الاقتصادي لصالح كل من الصين وتركيا، كون هذه الأخيرة عرفت كيف تتحول إلى شريك موثوق في القارة السمراء وبروزها كقوة إقليمية تسعى لاستقرار وازدهار دول القارة.
تركيا اليوم بفضل دبلوماسيتها المتزنة البراغماتية استطاعت أن تربك حسابات باريس وتجبرها على التركيز على أمنها القومي وليس بالضرورة على مصالحها القومية التي كانت احتكاراً فرنسياً.
عرفت ولاية الرئيس ماكرون الأولى فشلاً خارجياً ذريعاً سواء في دول منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، أو في إفريقيا. يسعى الرئيس ماكرون في العهدة الثانية لاستدراك ما فاته في العهدة الأولى خصوصاً في القارة السمراء، لكن اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية قد تجعل سياسته الخارجية في إفريقيا لا تختلف عن ولايته الأولى، سيحاول تعزيز العلاقات مع الدول الإفريقية الأنجلوسكسونية مثل نيجيريا بسبب أزمة الطاقة العالمية، وإعادة مشروع خط السكة الحديدية مع الغابون، حيث انضم هذا الأخير إلى "الكومنولث" في صفعة للنفوذ الفرنسي في بلد "علي بانغو" الذي كان والده عمر بانغو حميم فرنسا وراعي مصالحها.
تراجع النفوذ الفرنسي في القارة السمراء سهّل دخول تركيا وروسيا والصين إلى ملء الفراغ العسكري والاقتصادي.
الخلاصة
لم تعد القارة السمراء منطقة نفوذ لباريس وحدها، التي تحاول الآن تطوير العلاقات مع مستعمراتها السابقة عبر الاستثمار في جيل جديد من الحكام، وتدعي الدفع بمسارات ديمقراطية لاحتواء ظاهرة الفساد ونظام الحوكمة المطلق والمحسوبية على غرار النظام التشادي وبعض دول وسط القارة مثل كوت ديفوار ناهيك عن الكاميرون، لكن يبقى موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان مسألة إنشائية لدى باريس، همّها اليوم هو موضوع الهجرة غير الشرعية وحربها ضد الإرهاب والحفاظ على مصالحها.
بينما ينادي الأفارقة بالمساواة والاحترام والندية، وأن تقوم العلاقات الثنائية على مبدأ: "رابح-رابح"، وهو ما لا يتوافق مع الهوى الباريس، ما جعل النفوذ الفرنسي يتأرجح لصالح دول منافسة لها.
لهذا فدول مثل الصين وروسيا وتركيا، خاصة هذه الأخيرة التي تبنت سياسة إفريقية تقوم على مبدأ "رابح-رابح" ودبلوماسية إنسانية، جعلتها شريكاً فعلياً، بعدما فاق تمثيلها الدبلوماسي أكثر من 40 دولة إفريقية، وتربطها بعشرات الدول معاهدات اقتصادية وعسكرية.
كانت قمة "تركيا- إفريقيا" في الشتاء الماضي بإسطنبول قمة ناجحة ودفعت بأنقرة لأن تصبح قبلة عدد كبير من الأفارقة للتعليم والصحة والسياحة.
إن النفوذ الفرنسي بدأ يتعرض للانكسار بسبب غطرسة السياسة الفرنسية منذ عقود، متجاهلة باريس جيلاً جديداً متشبعاً بالوطنية والوعي، الذي وجد بدائل تقنية جعلته يعيش في عالم ثورة منصة التواصل الاجتماعي ليس فقط للتعبير عن غضبه ضد باريس ومن يحكم الدول الإفريقية التابعين لها.
بل أصبح هذا الوعي نافذة أمل لفتح المنافسة الدولية في القارة السمراء، فتزايد الإخفاقات الأمنية لباريس في القارة السمراء في السنوات الأخيرة وتمدد بؤر الإرهاب في دول الساحل الإفريقي وغرب إفريقيا قد يزيد في استنزاف ميزانية الجيش الفرنسي في زمن الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية على المواطن الفرنسي.
بدأت باريس تفقد العديد ممن كان يعتبر حامياً لمصالحها بعد موجة الثورات والغضب التي أطاحت بالعديد منهم هذا رغم دور الاستخبارات الفرنسية القوي في العديد من الدول الإفريقية.
فرنسا اليوم ملزمة بإعادة النظر في سياستها الإفريقية تجاه العديد من الدول؛ لأن خلية "فرنسا-إفريقيا" أكلها الدب الروسي والواقعية التركية والحذر الصيني التي عرفت هذه الدول الثلاث كيف تضع مفهوم الشراكة والتعاون والتكامل مع إفريقيا الجديدة.
فرنسا عليها أن تكف أيضاً تقديم دروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان، لأن إفريقيا فهمت أنه سواء خطاب غوغائي لرئيس شاب يستعمله كسلعة دبلوماسية. إن الحديث عن الاعتراف بجرائم فرنسا في عهد الإستعمار بات كلاماً عاماً للإعلام وأحياناً رسالة للناخب الفرنسي ذي الأصول الإفريقية، زيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة للكاميرون والبنين وغينيا بيساو تبقى زيارة استباقية خوفاً من النفوذ الروسي والصيني والتركي.
تبقى صورة القارة السمراء الإيجابية عند فرنسا البيضاء لامعة فقط عند إنجازات فرنسين من أصول إفريقية في بطولات الدورات الرياضية، وإذا فشلوا وقع العتاب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.