عيّن ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، الأسبوع الماضي، خليفة بن أحمد آل خليفة رئيساً لهيئة البحرين العامة للثقافة والآثار، بدلاً من الوزيرة السابقة مي بنت محمد آل خليفة. القرار المثير للشك لم يُشر إلى هذه الأخيرة من قريب أو بعيد، بل تحدث عن تعيين الأول في المنصب، وكأن ثمة فراغاً قيادياً في الهيئة التي تعتبر بمثابة وزارة للثقافة والآثار، غير أنه ارتبط مباشرة برفض مي بنت محمد مصافحة السفير الإسرائيلي بالمنامة إيتان نائيه، على هامش مراسم التعزية بوفاة والد السفير الأمريكي هناك ستيفن بوندي.
الواقعة التي حدثت منتصف يونيو/حزيران الماضي، ظلت بعيدة عن الإعلام والأضواء والنقاش، إلى أن جاء قرار إقالة مي بنت خليفة، الذي فضح الأسباب الحقيقية وراءه، في ظل التجاهل التام لها في نص القرار، وهو أمر مستهجن وغير معهود في التعيينات الإدارية المماثلة، تحديداً في المناصب العليا، خاصة أن بنت محمد، التي تنتمي أيضاً إلى الأسرة الحاكمة، تولت وزارة الثقافة لسِتّ سنوات تقريباً، قبل أن تتحول إلى هيئة الثقافة والآثار، وتحتفظ هي نفسها بدرجة وزير.
إضافة إلى ذلك قامت مي بنت محمد ولا تزال بنشاطات ثقافية مهمة جداً، ولو بشكل غير رسمي، داخل البحرين وخارجها، حيث تستفيد منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة "اليونيسكو" من خبراتها وقدراتها، كما كان لها ولا يزال باع طويل في خدمة الثقافة العربية، وتحديداً مشروع فلسطين الثقافي خلال السنوات الماضية.
ومن هنا لا يمكن الجدال أو الشك في حقيقة أن قرار الإقالة جاء كردّ مباشر على ما قامت به الوزيرة بنت محمد، ولم تستطع السلطات البحرينية إصداره فوراً، في يونيو/حزيران الماضي، كي لا يكون الأمر صارخاً أو فاضحاً، ولذلك انتظرت الانتهاء من الأعياد وبدء الإجازات الصيفية لإصدار القرار، بل وإخفائه ضمن تغيير وزاري روتيني أو موسمي.
من جهتها، غادرت الوزيرة مي آل خليفة الهيئة بهدوء، ووداعها كان حارّاً وصادقاً ومعبّراً جداً من قِبل الموظفين والعاملين، ويمكن اعتباره حتى بمثابة استفتاء على شخصها وقدراتها القيادية، وبالتأكيد على مواقفها السياسية، وما أعطى للوداع الحارّ أهمية أنه جاء بمثابة ردّ شعبي على قرار صادر من الملك، أي رأس السلطة، في نظام استبدادي أحادي، بعدما تم تحجيم الجانب أو الجوانب الديمقراطية والتمثيلية فيه، مع تقليص دور البرلمان المنتخب، وزيادة صلاحيات وسلطات الأمير، الذي بات ملكاً حسب التعديلات الدستورية الأخيرة.
غير أن ذلك كله لم يمنع الموظفين من التعبير عن مشاعرهم العفوية والصادقة تجاه زميلتهم ورئيستهم، في تأكيد على أن التقدير الشخصي والمؤسساتي والسياسي لها واسع وعميق جداً، حتى نرى هذا المشهد المهيب والمؤثر في وداعها.
وبالعموم يمكن قراءة ما فعلته مي بنت محمد من الزاويتين، الأولى الشعبية والجماهيرية، المتعلقة بموقف الشعب البحريني من التطبيع والعلاقات مع إسرائيل بشكل عام، والأخرى رسمية وتتعلق برد فعل السلطة تجاه موقف الوزيرة، علماً أنه يندرج بالتأكيد ضمن الحريات الشخصية، ولم يحصل حتى في مناسبة رسمية بحرينية، ولا بمقر الهيئة نفسه، وهو ما لم يتم احترامه وتقديره تجاه مي آل خليفة كإنسانة ومثقفة ومسيّسة.
بدا موقف بنت محمد قياساً على المعطيات السابقة الشخصية المؤسساتية والسياسية تعبيراً واضحاً عن المزاج الشعبي البحريني العام. وهو ليس موقفاً أحادياً لها، حيث بدت الوزيرة ناطقة ومعبّرة ولو بشكل غير رسمي عن المزاج العام للبحرينيين الرافضين للتطبيع، حيث لا مصافحة ولا مصالحة مع إسرائيل، خاصة في ظل التراث الكبير للبحرين تجاه فلسطين، هم "فلسطينيو الخليج"، حسب التعبير الدارج، وكما يقال في الخليج، ولنا أن نتخيل قيامهم -أي البحرينيين- بنخبهم ووجهائهم وعقلهم الجمعي في ثلاثينيات القرن الماضي بجمع تبرعات لأيتام فلسطين، وهو ما يتواصل الآن برفض التطبيع الرسمي ومنع إنزاله إلى المستويات الشعبية، وأيضاً برعاية وجهود الوزيرة الشخصية والحثيثة لإنجاح مشروع فلسطين الثقافي خلال السنوات القليلة الماضية.
من هذه الزاوية أيضاً بدا الوداع بمثابة استفتاء شعبي واضح وقاطع على موقفها، مع عدم تجاهل البعد الشخصي المرتبط بالمناقب الشخصية والمهنية والسياسية. وواضح أنها كانت مديرة ورئيسة ناجحة ديمقراطية ومحبوبة من مرؤوسيها وموظفيها، حتى تحوز كل هذا الحب منهم عندما غادرت الهيئة لآخر مرة، في مشهد وداع حميم ومؤثر.
ومن خلال هذا المشهد المهيب والودود والدافئ، هدمت أسرة هيئة البحرين للثقافة والآثار قاعدة "مات الملك يحيا الملك"، وهي قاعدة استبدادية بامتياز، بينما بدا المشهد ديمقراطياً بامتياز، حيث لم تُجبر مي آل خليفة الموظفين على فعل ذلك، وإنما بادروا من تلقاء أنفسهم حتى بثمن المعارضة والإشارة إلى رفض قرار السلطة بشكل ضمني، والاعتراض عليه ورفض إقالتها بهذا الشكل المسيء.
كما بدا المشهد من وجهة أخرى كاستفتاء قاطع على موقفها السياسي ضد التطبيع، حيث لا تصافح ولا تصالح. بينما أظهر بل أكد قرار الإقالة عُزلة السلطة وانفصالها عن الشارع والجمهور البحريني بشكل عام والناس، كما يمكن الاستنتاج أيضاً أن قرار التطبيع غير شعبي وجماهيري وما كان ليمر في مؤسسات وأطر ديمقراطية بالمعنى الحقيقي للمصطلح.
ثمة بُعد آخر ينبغي الاهتمام به والتركيز عليه، ويتعلق بحالة التضامن والاحترام والتقدير في الشارع العربي، لجهة استيعاب وفهم كامل لدلالات ما فعلته الوزيرة آل خليفة. ولذلك جاء التضامن واسعاً وعميقاً أيضاً وعلى طول العالم العربي وعرضه، من مراكش للبحرين، حيث وحدة الرأي والمزاج العام والعقل العربي الجمعي.
بالمقابل بدا التركيز مبالغاً فيه بعض الشيء تجاه الموقف الرسمي وقرار الإقالة الظالم وغير المنصف بحد ذاته، برغم أن العكس يجب أن يحدث لجهة التركيز على الفعل نفسه، أي عدم المصافحة والمصالحة، لا على قرار الإقالة مع رفضه طبعاً، والتطبيع بشكل عام، لكن يجب أن تكون الأولوية دائماً على الأجندة السياسية والإعلامية للفعل الشعبي الذي عبّرت عنه مي آل خليفة، باعتباره الموقف البحريني العربي الإسلامي الأصيل والجامع، وردّ السلطة باعتباره معزولاً، ولا يمثل بأي حال من الأحوال العقل الجمعي البحريني والعربي.
في النهاية وباختصار، ومن مراكش للبحرين، بدا الرأي العام العربي موحداً ومجمعاً على احترام وتقدير مي بنت محمد آل خليفة، ومناهضة التطبيع والعلاقات مع الدولة العبرية، والسعي الإسرائيلي الخبيث لنسج علاقات مع شرائح المجتمع العربي عبر سيل من زيارات المسؤولين في سياقات مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وعسكرية، والرفض الواسع لتلك الزيارات وعدم القبول بالمواقف التطبيعية الرسمية والاستبدادية، ومساعي إنزالها إلى السياقات الشعبية والجماهيرية بأي حال من الأحوال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.