ارتسمت صورة الشيخ المجاهد عمر المختار في الذاكرة الشعبية العربية والإسلامية منذ زمن طويل، وساهم في تكوين تلك الصورة الرمزية النضالية فيلم عمر المختار التاريخي، الذي عُرض في ثمانينيات القرن العشرين، والذي تناول تاريخ الكفاح الشعبي الليبي بقيادة المختار وأبطال السنوسية في ليبيا ضد المستَعمِر الإيطالي.
فمن هو عمر المختار؟ وكيف تحولت سيرته إلى حديث الركبان، وملأت سمعته الأركان؟
مولد المختار ونشأته
وُلد الشيخ الجليل عمر المختار من أبوين صالحين عام (1862م)، وقيل: (1858م)، وكان والده، مختار بن عمر، من قبيلة المنفة من بيت فرحات، وكان مولده بالبطنان في الجبل الأخضر، ونشأ وترعرع في بيت عز وكرم، تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة، وصفاتهم الحميدة التي استمدوها من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
توفي والده في رحلته إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه السيد أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور الواقعة شرق طبرق) بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد، وتولى الشيخ حسين الغرياني رعايتهما، محققاً رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الإخوان والقبائل الأخرى.
ذاق عمر المختار ـرحمه الله- مرارة اليتم في صغره، فكان هذا من الخير الذي أصاب قلبه المليء بالإيمان، وحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث التجأ إلى الله القوي العزيز في أموره كلها، وظهر منه نبوغ منذ صباه، مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء، والفقهاء والأدباء والمربين الذين كانوا يشرفون على تربية المتفوقين من أبناء المسلمين وتعليمهم وإعدادهم ، ليعدوهم لحمل رسالة الإسلام الخالدة، ثم يرسلوها بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وإفريقيا؛ لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه الرفيعة، ومكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير، ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم، السيد الزروالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبد الله الظاهري المدني وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة.
وأصبح على إلمام واسع بشؤون البيئة التي تحيط به، وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه، وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها، وتوسع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها، وتعلم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فضِّ الخصومات البدوية، وما يتطلبه الموقف من آراء ونظريات، كما أنه أصبح خبيراً بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يختارها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج، وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ببرقة ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو، وهي اختيارات مكتسبة عن طريق التجربة الطويلة، والملاحظة الدقيقة، وكان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل والأغنام والأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها، فهذه المعلومات تدل على ذكاء عمر المختار وفطنته منذ شبابه.
المختار وصفاته الجسدية
كان عمر المختار متوسط القامة، يميل إلى الطول قليلاً، ولم يكن بالبدين الممتلئ أو النحيف الفارغ، أجش الصوت، بدوي اللهجة، رصين المنطق، صريح العبارة، لا يُمل حديثه، متزناً في كلامه، تفتر ثناياه أثناء الحديث عن ابتسامة بريئة، أو ضحكة هادئة إذا ما اقتضاها الموقف، كثيف اللحية، وقد أرسلها منذ صغره، تبدو عليه صفات الوقار والجدية في العمل، والتعقل في الكلام، والثبات عند المبدأ، وقد أخذت هذه الصفات تتقدم معه بتقدم السن.
المختار.. شجاعته وكرمه
إن هذه الصفة ظهرت في سيرة عمر المختار منذ شبابه المبكر، ففي عام (1894م) تقرر سفر عمر المختار على رأس وفد إلى السودان، يضم كلاً من السيد خالد بن موسى، والسيد محمد المسالوسي، وقرجيلة المجبري، وخليفة الدبار الزوي أحد أعضاء زاوية واو بفزان، وفي الكفرة وجد الوفد قافلة من التجار من قبيلتي الزوية والمجابرة، وتجار آخرين من طرابلس وبنغازي تتأهَّب للسفر إلى السودان، فانضم الوفد إلى هؤلاء التجار الذين تعودوا السير في الطرق الصحراوية، ولهم خبرة جيدة بدروبها.
وعندما وصل المسافرون إلى قلب الصحراء بالقرب من السودان؛ قال بعض التجار الذين تعودوا المرور من هذا الطريق: إننا سنمر بعد وقت قصير بطريق وعر لا مسلك لنا غيره، ومن العادة ـإلا في القليل النادرـ يوجد فيه أسد ينتظر فريسته من القوافل التي تمر من هناك، وتعودت القوافل أن تترك له بعيراً كما يترك الإنسان قطعة اللحم إلى الكلاب أو القطط، وتمر القوافل بسلام، واقترح المتحدِّث أن يشترك الجميع في ثمن بعير هزيل ويتركونه للأسد عند خروجه، فرفض عمر المختار بشدة قائلاً: (إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أبطلت؛ فكيف يصح لنا أن نعيد إعطاءها للحيوان؟! إنها علامة الهوان والمذلة، إننا سندفع الأسد بسلاحنا إذا ما اعترض طريقنا).
وقد حاول بعض المسافرين أن يثنيه عن عزمه، فرد عليهم قائلاً: إنني أخجل عندما أعود وأقول: إنني تركت بعيراً إلى حيوان اعترض طريقي، وأنا على استعداد لحماية ما معي، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، إنها عادة سيئة يجب أن نبطلها، وما كادت القافلة تدنو من الممر الضيق حتى خرج الأسد من مكانه الذي اتخذه على إحدى شرفات الممر، فقال أحد التجار -وقد خاف من هول المنظر وارتعشت فرائصه من ذلك-: أنا مستعد أن أتنازل عن بعير من بعائري ولا تحاولوا مشاكسة الأسد، فانبرى عمر المختار ببندقيته -وكانت من النوع اليوناني- ورمى الأسد بالرصاصة الأولى فأصابته، ولكن في غير مقتل، واندفع الأسد يتهادى نحو القافلة، فرماه بأخرى فصرعته، وأصرّ عمر المختار على أن يسلخ جلده؛ ليراه أصحاب القوافل، فكان له ما أراد.
كان عمر المختار شديد الحرص على أداء الصلوات في أوقاتها، وكان يقرأ القرآن يومياً، فيختم المصحف الشريف كل سبعة أيام منذ أن قال له الإمام محمد المهدي السنوسي: يا عمر وردك القرآن
إن عمر المختار كان صاحب قلب موصول بالله تعالى، فلم تسكره نشوة النصر، وحلاوة الغلبة بعدما تخلَّص من الأسد الأسطورة، وأزاح الظلم، وقهر التعدي، بل نسب الفضل إلى خالقه ولذلك أجاب سائله بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفَال: 17].
المختار وعلاقته مع القرآن الكريم
كان عمر المختار شديد الحرص على أداء الصلوات في أوقاتها، وكان يقرأ القرآن يومياً، فيختم المصحف الشريف كل سبعة أيام منذ أن قال له الإمام محمد المهدي السنوسي: يا عمر وردك القرآن.
إن المحافظة على تلاوة القرآن والتعبد به تدل على قوة الإيمان، وتعمقه في النفس، وبسبب الإيمان العظيم الذي تحلى به عمر المختار انبثق عنه صفات جميلة، كالأمانة والشجاعة، والصدق، ومحاربة الظلم، والقهر، والخنوع، وقد تجلَّى هذا الإيمان في حرصه على أداء الصلوات في أوقاتها؛ قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النِّسَاء: 103]، وكان يتعبد المولى -عز وجل- بتنفيذ أوامره، ويسارع في تنفيذها، وكان كثير التنفل في أوقات الفراغ، وكان قد ألزم نفسه بسنة الضحى، وكان محافظاً على الوضوء حتى في غير أوقات الصلاة، ومما يروى عنه أنه قال: لا أعرف أنني قابلت أحداً من السادة السنوسية وأنا على غير وضوء منذ شرفني الله بالانتساب إليهم. وهذا المجاهد، محمود الجهمي، الذي حارب تحت قيادة عمر المختار وصاحبه كثيراً، يذكر في مذكراته: أنه كان يأكل معه، وينام معه في مكان واحد، ويقول: (لم أشهد قط أنه نام لغاية الصباح، فكان ينام ساعتين أو ثلاثاً على أكثر تقدير، ويبقى صاحياً يتلو القرآن الكريم، وغالباً ما يتناول الإبريق ويسبغ الوضوء بعد منتصف الليل، ويعود إلى تلاوة القرآن، لقد كان على خلق عظيم، يتميَّز بميزات التقوى والورع، ويتحلَّى بصفات المجاهدين الأبرار…).
إن من أسباب الثبات التي تميز بها عمر المختار حتى اللحظات الأخيرة من حياته، إدمانه على تلاوة القرآن الكريم، والتعبد به، وتنفيذ أحكامه، لأن القرآن الكريم مصدر تثبيت وهداية، وذلك لما فيه من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ولما فيه من ذكر مآل الصالحين، ومصير الكافرين والجاحدين وأوليائه بأساليب متعددة. لقد كان عمر المختار يتلو القرآن الكريم بتدبر وإيمان عظيم، فرزقه الله الثبات وهداه طريق الرشاد، ولقد صاحبَهُ حالُه في التلاوة حتى النفس الأخير، وهو يساق إلى حبل المشنقة، وهو يتلو قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً *} [الفَجر: 27-28]
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.