لماذا أصبحت التربية أصعب بكثير من الماضي؟ أبرز 6 تحديات تواجه الآباء والأمهات بالعصر الحديث

تم النشر: 2022/08/02 الساعة 10:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/02 الساعة 10:09 بتوقيت غرينتش

كثير من الأمهات والآباء يشتكون من صعوبة "التربية"، ولا أنكر أن التربية فيها صعوبة، وأنها مسؤولية عظيمة ومهمة كبيرة، ولكن القضية أنهم يحصرون الصعوبة في عملية التربية نفسها، بينما تأتي صعوبة التربية الحقيقية من مصادر أخرى، ومن أسباب قد لا يحسب لها الناس حساباً ولا تذكرها كتب التربية، منها الداخلية ومنها الخارجية؛ فأكثر ما تحتاجه التربية الصحية السليمة هو "التفرغ التام وهدوء البال"، وأنى يكون ذلك والعراقيل والمثبطات والعوارض الطارئة تحف بنا؟!

فأكثر الصعوبات التي تواجه المربين والمربيات تأتي من "أسباب بعيدة" لا علاقة مباشرة بينها وبين عملية التربية، ولكنها ترتبط ارتبطاً وثيقاً بها من جهة كونها "عوامل سلبية" تؤثر تأثيراً رهيباً على الأم وتخلخل استقرارها النفسي، فتكتسب تلك "العوامل غير المباشرة" القوة وتصبح فاعلة جداً، ويمتد دورها المفسد إلى عملية التربية. وهذه أهمها:

أولاً: توسُّع واجبات الأم وانشغالها عن الأولاد (وهي المربية الأساسية) 

فقد صعبت الحياة، وتوسع طموح الأمهات، وأصبحن يشاركن الرجال في الكسب وفي كل الأعمال (لكي تستقيم الحياة)، فزادت المسؤوليات عليهن وكانت أصلاً كثيرة؛ فالأم لها حاجاتها الشخصية الضرورية. والأم زوجة وعليها القيام بواجبات الزوجية، وهي ليست قليلة؛ إذ ينبغي التزين للزوج والاستجابة له في أي لحظة، وتفقد طعامه وشرابه ولباسه، ومراعاة مواعيد عمله ونومه، ومسامرته ومصادقته.

والأم ربة بيت وعليها مسؤولية الترتيب والتنظيم والغسيل والكي، والطبخ وتخزين الطعام، والتجهيز للدعوات، والإعداد للخروج سواء للسفر أو للنزهات.

والأم أم وعليها الاعتناء بالأطفال مادياً ومعنوياً، والاستيقاظ من أجلهم وتأمين حاجاتهم وحفظهم، وشراء ملابسهم وكافة لوازمهم المدرسية وغيرها.

والأم ابنة وعليها بر والديها، وزيارتهما وتفقد أحوالهما، ومؤانستهما ومساعدتهما وتمريضهما.

والأم كنة وخالة وعمة وجارة وصديقة، ومسؤولة عن كل ذلك، فتزور المريضة وتعزي المصابة، وتفرج كرب المحزونة، وتساعد ذات الحاجة الملهوفة.

والأم فرد في المجتمع، وعليها المساهمة فيه بنصيب، سواء بالمشاركة في المشروعات الخيرية أو سماع المحاضرات، أو الدعوة إلى الله.

ومن الأمهات المعلمة والموظفة والطبيبة والمهندسة، أعمالهن تستغرق 9 ساعات من اليوم، وللنوم والطعام وضرورات الحياة ما لا يقل عن 10 ساعات، وما بقي يوزع على المهام السابقة (زوج وأولاد وصلة أرحام وعيادة المريض)، وفوقها تحتاج الأم لوقت لتنمية قدراتها وقراءة الكتب والمجلات.. فهل سيكفي!

فأنى للأم التفرغ؟ وكيف ستستطيع التوفيق بين المهام كلها وتنجح في كل واحدة؟

والطامة الكبرى في انشغال الآباء أيضاً، فكل ما سبق ينطبق عليهم بالإضافة إلى غيابهم الطويل؛ فمع غلاء الأسعار وزيادة البطالة، أضحى العبء المادي الملقى على كاهل الرجل كبيراً، وكثيرون يتأخرون في العودة من أعمالهم يومياً، أو يعملون في مكانين أو ثلاثة، ويعودون إلي بيوتهم منهكين فلا يربون ولا يوجهون ولا يعلمون شيئاً عن حال أولادهم. فمن يربي الأبناء إذا انشغلت الأم ومعها الأب؟

ثانياً: عدم إمكانية الاستراحة أو الاعتذار

الأم تكون مستنفرة طول اليوم، والأولاد يستهلكون نهارها كله بخدمتهم وتحقيق رفاهيتهم؛ فلا تستطيع تخصيص وقت محدد لهم لتقضي طلباتهم وتلبي رغباتهم ثم تلتفت لشؤونها ومهامها الأخرى. إنهم معها دائماً، وهي مضطرة لقطع نومها أو الاعتذار من مضيفتها إذا طرأ أي طارئ بسيط، (مثل كسر الصغير كوباً أو جرح أصبعه، أو إسقاط أصص الزرع ونثر ترابها على السجاد).

الأم في خدمة أبنائها 24 ساعة، ولا يمكنها التملص أو الاعتذار، العناية بهم ورعايتهم تأخذ ساعات طويلة وجهداً مكثفاً، ويمرضون باستمرار وقد يتقيئون في أي مكان فتكون مصيبة، وتنتابهم الآلام ليلاً فتبقى بلا نوم لتمرضهم وتتأكد من سلامتهم فتعلن حالة الطوارئ، وتتسخ حفاضاتهم 6 مرات في اليوم، وقد يصل البلل والرائحة الكريهة إلى ملابسهم الجديدة الأنيقة وإلى الفرش الثقيلة الغالية فتصير المهمة عسيرة.

ويخربون متاع البيت ويفسدون نظافته وترتيبه، وطلباتهم ملحة وأسئلتهم محرجة وبعضها يحتاج لتفكير عميق ومراجعة في الكتب، ويحتاجون وقتاً حتى يلتزموا بالآداب والخلق، وتعديل طباعهم أمر شاق ويحتاج إلى علم وفن وخبرة وصبر طويل. 

وصدق أهل الأمثال حين قالوا: "لا يكبر ولد إلا بعد أن يفنى جسد"، ولذلك وصى الله بالوالدين ورفعت الأحاديث من مكانة الأم.

وحين تُستهلك الأم تنتابها الأفكار السلبية، وتفقد اتزانها، وتتراخى بالتربية والتوجيه.

ثالثاً: كثرة العوارض المحبطة والمثبطة والمعطلة

الأم إنسان؛ فهي تمل وتغضب وتتعب وتمرض، ومزاجها يتغير بسبب الدورة الشهرية وتَقَلُب الهرمونات، ولا تكون على حال واحد في كل الأوقات، فتارة تحل مشاكل أولادها بالحكمة والموعظة الحسنة، وتتعامل مع المشكلة بقلب كبير وعقل واع وتراعي ظروف الصغار ومشاعرهم. وتارة تكون في وضع نفسي سيئ (تفكر بأمر، أو تنتظر خبراً، أو منزعجة من شخص ما)، فتصرخ بهم وتضربهم على أمر بسيط لا يحتاج لأكثر من تنبيه صغير، ويشعر الأطفال بالظلم ويقعون في الحيرة من سلوكها.

والأم لها مشكلاتها الخاصة، ومعاناتها، ويوجد في حياتها ما يزعجها ويؤلمها كأن تكون على غير وفاق مع زوجها أو مع أهله، أو تعيش في ضائقة مادية. كل هذا يقلب المزاج ويؤدي للاكتئاب، ويفسد توازن الأم النفسي ويعطل تفكيرها ويؤثر على حكمتها وحسن تصرفها مع أبنائها، فتفسد ما سبق أن زرعته من الحب والحنان والتوجيه السليم.

ونحن في زمن كثرت فيه المصائب والأمراض والحوادث المفاجئة وقلّت الأموال، هذا من جهة. ومن جهة أخرى كثر العقوق ورفيق السوء، وتفشت الأنانية وسوء الظن، الأمر الذي يحبط الوالدين، فيهملان تربية الأولاد بحجة أنه لا وقت لذلك ولا مزاج ولا هِمّة، والمسؤوليات الأخرى أهم وأبدى! وأنه لا فائدة ترجى من التربية ونحن في زمن لا مكان فيه للخلق والفضيلة وإنما البقاء للأقوى والأغنى! فيتركون أولادهم هملاً على أساس أن الدنيا أكبر مدرسة، والتجارب ستربيهم وتعلمهم، وبالطبع هذه فكرة خطأ.

رابعاً: قوة العوامل الوراثية 

قالوا: "الولد عجينة طرية"، ويمكن تشكيله بسهولة في كل شأن، ولكن، من تجربتي، اكتشفت أنه ليس بكذلك!

صحيح أن الابن يكون عجينة طرية في جوانب معينة، لكن الأم والأب لا يستطيعان أبداً تشكيل ولدهما على كيفهما (في كل أمر)، بسبب الطباع التي خلق عليها أصلاً، والتي حملها في جيناته وفي عروقه، فلا يمكنه الفكاك منها إلا بصعوبة بالغة؛ فالإخوة وحتى التوائم المتماثلة تختلف طباعهم، فكيف بالبقية؟ وتظهر الطباع منذ اللحظات الأولى للولادة، فهذا يتصبر على الجوع ساعات ولا يبكي، والآخر يترك الرضاعة تماماً إذا تكلمت أمه، والثالث لا يتوقف عن العبث والحركة لحظة.

وفي عمر السنتين نميز بوضوح الكريم من البخيل، والمتسامح من الحقود، والهادئ من الطائش. فمن أين جاء هذا؟ جاء من الجينات وتغلغل في كل خلية وولد مع الإنسان، فأنى الهروب منه!!

الطفل يتعلم "التهذيب" و"القيم" ويترقى فيهما، ولكن تغيير الطباع تغييراً جذرياً صعب ومجهد، ويحتاج إلى الصبر والمثابرة (وقد لا يتم).

 وتبديل الميول والأهواء من سابع المستحيلات، فكيف أبدل صاحب الذهن الرياضي والأسلوب العلمي إلى الميول الأدبية والأسلوب الجميل الراقي؟ وكيف أقنع الذي يحب التجارة ويتقن فنونها بالعمل في وظيفة حكومية؟ وباختصار نحن لا نستطيع تشكيل شخصياتهم كما نحب ونرضى، بل طباعهم وميولهم وأهواؤهم تحددها.

وتشكيل الطفل أمر صعب جداً بسبب الظروف التي يتعرض لها كل فرد في حياته اليومية، وبطريقة تلقِّيها وانطباعها في نفسه، كما تلعب بالطفل عوامل أخرى متعددة (اجتماعية واقتصادية وصحية ونفسية)، فتتغلغل في كيانه ولاشعوره وعقله الباطن وتحول دون الاستجابة الجيدة.

خامساً: العجز عن المتابعة

لو سلمنا بأن "الطفل عجينة سهلة التشكيل"، فلا ينبغي تركه بلا قالب، بل يحتاج لقالب مناسب وذي قياسات صحيحة يترك فيه إلى أن يجف تماماً وإلا سيفسد ويتشوه ولا يمكن إصلاحه من بعد. وهذه هي المتابعة، وهي تنفع تماماً وتفيد جداً في تربية "الذوق والتهذيب" و"الأخلاق العالية".

والمتابعة من أهم أسس التربية لتثبيت الفضائل ومحو الرزايا، فالطفل ينسى وتجرفه أهواؤه، ويدفعه فضوله للتملص من التوجيهات وتجربة المنهيات… وأين هي الأم المتفرغة للمراقبة ولتصحيح كل خطأ؟ إذ كل أم لها عدة أطفال، وكل يحتاج لتوجيه خاص، والتربية متعددة الجوانب، وطويلة الأجل، فهي تستمر إلى ما بعد البلوغ.

إنها لأجل ذلك "مهمة صعبة"، وكان الله في عوننا نحن الأمهات.

سادساً: تعدد الصواب وعدم وضوح الخطأ

إذ مع الدراسات الحديثة وتطور علم النفس وتعدد المدارس السلوكية والمذاهب التربوية؛ أشكلت الأمور على المربين، ووقعوا في حيص بيص، ماذا يفعلون؟ وكيف يسلكون؟ وكل يوم تتعرض الأم لمواقف وتتساءل: (ما هو التصرف السليم؟ وأين الصح؟)، وقد تختلف مع الأب في ذلك، ويتشتت الأولاد بينهما. 

مثلاً ومن الصعوبات المحيرة: (حين يخاف ابني من النوم في غرفته: هل أسمح له بالنوم في غرفتي؟ أو أنام أنا معه في غرفته؟ أو أتجاهل مخاوفه وأجبره على النوم وحيداً في غرفته؟ أم أُلاطفه وأحاول إقناعه لعله يرضى؟ وهل أترك المصباح مضاءً؟ أم أدير آلة التسجيل ليتلهى بصوتها وينسى خوفه؟).

هذه مجموعة حلول منها ما هو صواب ومنها ما هو خطأ، والصواب يتعدد، فأي الحلول أختار؟ وما هو الأنسب منها؟ وهل تصلح لكل طفل أم ينبغي أن يتناسب أسلوب الحل مع شخصية الصغير ونفسيته؟

كما أن الأخطاء لا تبدو أحياناً واضحة إلا بعد الوقوع فيها، وهناك شعرة بين الصحيح والخطأ، فتدليل الولد لا شيء فيه لو كان بحد معقول، على أنه إن زاد يتحول إلى الدلع الممقوت والمخرب للطفل. فكيف ستدرك الأم الفروقات وهي صغيرة وجديدة على الأمومة؟

وبسبب تنوع المدارس التربوية واختلاف مشارب وثقافة القائمين عليها جاءت بمذاهب متناقضة! فهذه المدرسة تقول: "ينبغي تنظيم رضاعة الوليد من لحظة ولادته، بحيث لا يقل الوقت عن ساعتين بين الرضعتين"، والأخرى تقول: "كلما بكى الوليد أرضعيه"، ويستمر التناقض في سائر التوجيهات التربوية، فما العمل مع هذا الاختلاف؟

وهذه الصعوبات الست عوامل قوية ومؤثرة في عملية التربية، ولا يمكن الاستهانة بها ولا التغاضي عنها. ولا شك أنها واجهت الأمهات وواجهت الأباء من قديم، على أنها تفاقمت في زماننا وزادت حدتها وطرأت عليها أشياء أخرى جديدة.

ولأن هذه العوامل خارجة عن الإرادة يصعب الحد من تأثيراتها، وكل عامل منها كفيل وحده بتنغيص الأم وتكدير مزاجها وتعطيلها عن القيام بواجبها، فكيف الحال وقد اجتمعت كلها عليها؟! ومن هنا تنشأ الصعوبة الحقيقة للتربية ويتعذر التوجيه ويفلت الزمام. فانتبهوا لها وحاولوا الحد من تأثيراتها والتغلب عليها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عابدة المؤيد العظم
أستاذة الفقه والشريعة الإسلامية
عابدة المؤيد العظم، مفكرة إسلامية وباحثة في الفقه وقضايا الأسرة
تحميل المزيد