يتساءل الكثير منا عن السر وراء ضعف أمتنا مقابل التطور السريع الذي يعيشه الغرب؛ مما مكَّنه من قهرنا وإذلالنا في الماضي، فاستعمرنا وأهان كرامتنا ودنَّس معتقداتنا واستنزف خيراتنا، ثم ها هو يتحكم فينا عن بُعد ويحرص على تثبيتنا في أسفل درجات سلم ترتيب الأمم والشعوب. وجاء من بعضهم الجواب السهل وعلى عجل من أن الحل يكمن في تبني منطق الغرب وثقافته للخروج من العجز والتخلف، وتوفرت الفرصة لأصحاب هذا الطرح لوضع وتنفيذ أفكارهم، ووصفوا بعناوين مختلفة من اشتراكية تقدمية إلى رأسمالية متحررة تنطلق من فكرة المنفعة.. فهل نجحوا؟!
أبداً.. منذ انتهاء عصر الاحتلال العسكري المباشر، ونخبنا الحاكمة -المنهزمة حضارياً- تفشل وتعيد إنتاج الفشل، ومجتمعاتنا المغلوبة تدفع أثماناً كبيرة كخسائر لتجاربهم. لو رجعنا إلى تاريخنا القريب لوجدنا أن كل التجارب الإنسانية المتوفرة قد جُرِّبت في أوطاننا، عرفنا كل أنظمة الحكم الممكنة، تبنَّينا مختلف الأيديولوجيات المتوفرة، لكن النتيجة واحدة؛ فقر وفساد وظلم ترافقه تبعية لقوى الطغيان الخارجية.
من الوهلة الأولى يظهر وكأن سؤال النهضة سهل ومتيسر، فيكفى أن نختار بعناية نظام مجتمع ناجحاً ونطبِّقه فننجح بدورنا. لكن هذه الطريقة أثبتت تجربة الـ 100 سنة الفارطة على الأقل فشلها، وتعددت التفسيرات لذلك، فنجد أن:
١- المحافظين فسّروا فشلها لكون المشاريع مستوردة وتضاد قيم المجتمع.
٢ – بينما فسر التغريبيون فشلها لتشبث المجتمع بقيمه البالية.
٣- أما السلطات المستفيدة من الوضع فتفسيرها متقلب ومتناقض وتحصره عموماً في قضايا إجرائية لا تنتهي.
والذي يهمني أكثر هو التفسير الثالث لأنه الأعلى صوتاً في وقتنا الحالي؛ ولأنه الأكثر قدرة على تغليط النخب وإقناعها، وبالتالي جرّها إلى المشاركة في حلول إجرائية شكلية، فتساهم بغفلة منها في تضييع وقت ثمين على الأمة.
تحت ضغط الاحتجاجات أو ظروف أخرى خارجية عادة يلجأ الحكام إلى دعوة الخبراء لوضع مشاريع وخطط إصلاح؛ مثل الدعاية لمشروع إصلاح القضاء أو إصلاح التعليم أو إصلاح الصحة وغيرها، وتنتهي كلها بالفشل والعودة إلى نقطة الصفر.
وتقوم الأنظمة الحاكمة بتغيير واجهتها ثم تعاود تلهية المجتمع بقصة الإصلاحات وتحسين الوضع، وتجاربنا في بلدنا الحبيب تدل على ذلك، فانظر لمشاريع الإصلاح التي أطلقها الرئيس الجزائري الراحل بومدين، والتي أطلق عليها اسم "الثورات"، إلى أين انتهت؟.
وبعد 20 سنة من الاستقلال، جاءت واجهة جديدة ممثلة في الرئيس الشاذلي، وأطلق مشاريع إصلاح واسعة، تحت شعار "من أجل حياة أفضل" انتهت بفشل دامٍ حزين.
وفي الـ20 سنة الثالثة من الاستقلال بشَّر العهد الجديد بمستقبل زاهر للأمة تحت شعار "ارفع رأسك" وانتهت بكوارث لا تُعد ولا تُحصى على مختلف مناحي حياة الأمة.
ولغيور أن يستغرب ويتساءل: ألا يوجد مخلص واحد منذ الاستقلال يعمل لخير الأمة ويُنجح مشروعه ولو بإصلاح وظيفة واحدة؟! ألم يكن من بين عشرات رؤساء الحكومات ومئات الوزراء الذين مروا مند الاستقلال من يحب الخير لمجتمعه ويعمل لصالحه؟
والجواب:
القضية ليست مرتبطة بكفاءة أو أمانة الشخص المسؤول ولا بملاءمة أو عدم ملاءمة المشروع. القضية مرتبطة بإضاعة الوقت والمال والجهد في العناية بآثار العلة وتسكين آلامها والغفلة عن معالجة السبب فيها، فحالنا يشبه كثيراً ما يحدث في عالم الطب.
فإذا كان المجتمع يمثل الجسد، فإن السياسة في المجتمع تقابل العمود الفقري في الجسد، أما القضاء، الإعلام، الاقتصاد، الثقافة، التعليم والصحة، فهي مجموعة الوظائف الأساسية في المجتمع تقابلها وظائف السمع والبصر والحركة وغيرها في الجسم، فإن أصاب عطب العمود الفقري لحق الضرر بكل الوظائف الحيوية للجسم، فإن ركزنا على معالجة مثلاً وظيفة الحركة (علاج شلل الأطراف) وقمنا باستدعاء أمهر الأطباء ووفرنا إمكانيات مالية ومادية ضخمة وطبقنا أحدث طرق العلاج، فهل سيستعيد الجسم وظيفة الحركة؟ لا.
مهما اجتهدنا ومهما فعلنا وبذلنا لإصلاح وظيفة الحركة فسيكون مصيرنا الفشل؛ لأن الخلل الحقيقي هو في العمود الفقري، والمعالج الحذق لا يضيع جهده ووقته ويتجه مباشرة لمعالجة أصل الداء ومسببه وهو العطب الذي أصاب العمود الفقري.
وهذا حالنا، فلن ينصلح حال أي قطاع في المجتمع إلا إذا عالجنا أولاً عموده الفقري، ألا وهو النظام السياسي، ثم لا بأس أن نضيف بعد المحسنات، وهذا بحسب طبيعة الوظيفة.
مجتمعاتنا هذا هو حالها، فالعطب في نظامها السياسي، الذي تعددت أسبابه وزادت غواشي التاريخ في التظليل عليه.
التاريخ أثبت أن حكامنا، عن غفلة أو عن وعي، يعملون على تبديد وقت ومقدرات الأمة على مشاريع وخطط تسبقها دعايات ضخمة كاذبة لمعالجة وظيفة ما يتشوق الناس لصلاحها. كما يقع بعض النخب في المغالطة، فنجد المهتم بالثقافة يؤكد على أن نجاح المجتمع مرهون بإصلاح قطاع الثقافة، ومَن اهتماماته اقتصادية يصر على أن الطريق الأوحد لنهضة المجتمع هو إصلاح قطاع الاقتصاد، فالأزمة من وجهة نظرة اقتصادية، ومنهم من يحصرها في التعليم أو الأخلاق وهكذا.
ألم يصرف النظام الحاكم في الجزائر مثلاً بواجهته البوتفليقية، على مدار 20 سنة من عمرها، حوالي ألف مليار دولار من مقدرات الأمة واستعمل مئات الإطارات من رجالها على مشاريع سُمِّيت إصلاحات لمختلف القطاعات وانتهت إلى الفشل والعدمية.
فإن كانت نيتنا نهضة مجتمعنا فعلينا بالمبادرة والتركيز على إصلاح النظام السياسي، وذلك باسترداد القيم السياسية الصحيحة وترسيخها، فهي التي يقوم عليها مجتمع الحق والعدل.
ولا ننخدع بالإجراءات الشكلية التي تسمى إصلاحات سياسية، بينما مثلاً تتغول السلطة التنفيذية على باقي السلطات والصلاحيات الإمبراطورية لرئيس الجمهورية لم يرها أحد منهم. فلا يتبنى مثل هذه المغالطات ولا يدافع عنها إلا أحد اثنين؛ مستفيد ظالم، أو غافل سفيه.
فالمشكلة إذن ليست تقنية ولا أخلاقية ولا هيكلية ولا مادية وليست قطعاً قضية رجال وكفاءات، بل هي بالأساس سياسية، أي الخلل يكمُن في نظامنا السياسي ولنقل في ثقافتنا السياسية التي ندير بها الشأن العام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.