تسترجع الذاكرة التاريخية للشعب الفلسطيني مذبحة مخيم تل الزعتر التي لا تزال حاضرة في أذهان ووجدان الكثيرين، وشاهدة على أفظع الجرائم ضد الإنسانية وبشاعة مرتكبيها، ممن امتلأ تاريخهم الأسود بالقتل والحقد والطائفية، وسفك الدماء، والذبح واغتصاب النساء وقتل الشيوخ والأطفال والتنكيل بالجثث ونهب البيوت والممتلكات.
واليوم رغم مرور عقود كثيرة، لا يمكن للذاكرة الفلسطينية المُثقلة بالجراح، والمزخرفة بالطعنات أن تمحو آثار هذه المذبحة وغيرها من مذابح حصدت الآلاف من الأرواح، والتي تآمرت فيها عدة أطراف وميليشيات متطرفة، لقتل لاجئين فلسطينيين ومدنيين عُزّل لا تزال جثث وأشلاء الكثيرين مفقودة ومدفونة في أماكن متفرقة لغاية اليوم.
بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى أزداد نشاط الحركة الصهيونية في فلسطين بمساندة الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة هاري ترومان "1945 – 1953" المعروف بميوله للصهيونية وتأييده لدخول مئة ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين، فاندلعت على أثر هذا القرار موجة من الاضطرابات في فلسطين عام 1946.
دفعت بريطانيا قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة، من بعد أن عزمت على إلغاء انتدابها على فلسطين ووضعها على جدول أعمال المنظمة الدولية التي شكلت بدورها لجنة خاصة عرفت بلجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين "اليونسكوب"، كلفت بزيارة فلسطين وتقديم توصياتها إلى الأمم المتحدة، وبالفعل قامت اللجنة بتقديم توصياتها وصدر قرار الرقم (181) في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية.
وبعد صدور قرار التقسيم بدأت موجات الهجرة أما قسراً أو طوعاً، إلى خارج فلسطين بعد ازدياد حدة الاصطدامات بين العرب واليهود وقام الصهاينة بطرد الشعب الفلسطيني إلى الدول المجاورة وحولتهم إلى لاجئين.
كما ساعد إعلان دولة الكيان الصهيوني عام 1948 ودخول الجيش العربي إلى فلسطين وانتصار جيش الاحتلال إلى تسارع موجات الطرد والنزوح وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين. وكانت لبنان إحدى الدول التي التجأ إليها الفلسطينيون وجعلتها كملاذ لهم، واختلفت المصادر في عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين لجؤوا إلى لبنان بعد نكبة 1948، وهناك بعض المصادر قدرت عددهم بما بين 100 ألف إلى 130 ألف لاجئ فلسطيني.
︎لماذا اختار اللاجئون الفلسطينيون لبنان؟
يعود اختيار اللاجئين الفلسطينيين لبنان كملجأ لهم لعدة أسباب منها:
أولاً: قرب المناطق التي لجأ فيها اللاجئون الفلسطينيون من الحدود اللبنانية، حيث تربط لبنان بفلسطين حدود برية، ولأن الموانئ البحرية في صور وصيدا فبيروت أقرب من الموانئ إلى حيفا وعكا.
ثانياً: بحكم قرب فلسطين من لبنان، نشأت علاقات زواج ومصاهرة بين سكان تلك المناطق، خاصة بين سكان الجليل وشمال فلسطين واللبنانيين.
ثالثاً: صلة القرابة، هناك من اللاجئين الفلسطينيين الذين هاجروا إلى لبنان من أصحاب الطبقة البرجوازية من المدن، التي كانت تزور لبنان في الصيف ولديها صلة قرابة تربطها بالعائلات اللبنانية.
رابعاً: كان هناك نسبة عالية من اللبنانيين كانوا يعيشون في فلسطين، فقد كانت الجالية اللبنانية في فلسطين من أكبر الجاليات في فلسطين قياساً بغيرهم من العرب، فهناك عدد كبير من العمال اللبنانيين جاؤوا للعمل في فلسطين.
بدأت "وكالة الأونروا" تتحمل مسؤولية هؤلاء اللاجئين، وحسب البيانات التي جمعتها وكالة "الأونروا" بين عامي 1950 و1951 فإن معظم اللاجئين الفلسطينيين قدموا من منطقة عكا، وحيفا، والحولة، والناصرة، وطبرية.
توزع اللاجئون في العام 1951 على أكثر من 126 موقعاً، وكان الموقع مركزاً لتقديم المساعدات ثم تبلورت على صورة تجمعات في الخيام، وأكواخ من الصفيح.
وكان السبب الذي أدى إلى عزل اللاجئين الفلسطينيين داخل المخيمات هو حاجة اللاجئين للمساعدات التي كانت تقدم بشكل منتظم للمخيمات، فضلاً عن ذلك فإن حصرهم في المخيمات ليسهل مراقبتهم فيها، ومن بين هذه المخيمات، "مخيم تل الزعتر" الذي تأسس عام 1949، بعد عام على نكبة الشعب الفلسطيني.
︎ مخيم تل الزعتر
يقع في المنطقة الشرقية الشمالية من مدينة بيروت، ومساحته كيلومتر مربع واحد.
تميز مخيم تل الزعتر في ذلك الوقت بالنشاط الزراعي الذي ازدهر نسبياً في تلك المنطقة التي اشتهرت، خاصةً ببساتين الحمضيات والخضراوات، وعمل قسم كبير من سكان المخيم في الزراعة، وبحلول عام 1968 تقلص النشاط الزراعي، وصارت المنطقة الشرقية الشمالية من بيروت أهم مناطق لبنان الصناعية على الإطلاق.
كان طبيعياً أن يقترن بالتطور الكبير للمنطقة المحيطة بالمخيم، تطور ديمغرافي مهم داخل المخيم نفسه، حيث راح عدد السكان يرتفع من 400 نسمة في عام 1950 إلى 3 آلاف نسمة في 1955، ثم حوالي 6600 في عام 1960/1961، إلى 13100 في عام 1970/1971، ثم حوالي 14200 في عام 1971/1972، إلى أن وصل قُبيل مهاجمته عام 1976 إلى حوالي 20 ألف فلسطيني و10 آلاف لبناني.
يوميات الحصار وهمجية العدوان
في شهر يناير/كانون الثاني عام 1976، وإبان الحرب الأهلية اللبنانية بدأ الحصار الفعلي لمخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين من الميليشيات اليمينية المتطرفة، ومساعدة من "قوة خارجية"، إلى أن بدأ هجوم واسع لميليشيا "النمور" التابعة لكميل شمعون، في 20 يونيو/حزيران على المخيم وعلى التجمعين المجاورين له، جسر الباشا والنبعة، وانضم للمهاجمين أيضاً في تلك المذبحة بجانب "نمور الأحرار وزعيمها كميل شمعون"، كل من "الكتائب اللبنانية" بزعامة بيير الجميل، و"حراس الأرز" وزعيمها إتيان صقر أبو أرز و"الشبيبة اللبنانية"، حيث بدأت القذائف والصواريخ تمطر المخيم بلا انقطاع من بزوغ الفجر إلى المغيب وعلى مدى 52 يوماً متتالية، حيث يُقدر عدد القذائف التي سقطت على مخيم تل الزعتر بحوالي 55000 قذيفة.
– اليوم الأول سقطت حوالي 5000 قذيفة على المخيم، فدمرت ما يقرب من 70 بالمئة من بيوته.
– 1 يوليو/تموز، حاولت الفصائل الفلسطينية فك الحصار عن تل الزعتر، لكن دخول قوى إقليمية على خط المعركة أفشل الهجوم، الذي تكرر في 4 يوليو/تموز، لكنه لم يُكتب له النجاح للأسباب نفسها.
وفي منتصف يوليو/تموز استطاع 75 متطوعاً فدائياً الوصول إلى المخيم، وإدخال نحو 100 قذيفة صاروخية مضادة للدبابات من طراز "آر بي جي"، لكن بدأ محيط الدفاع عن المخيم يتقلص بالتدريج، نتيجة الدعم الذي تلقته مجموعات الميليشيات المهاجمة.
في نهاية يونيو/حزيران، لم يبق في المخيم كله، سوى ثلاثة مصادر للمياه، تقلصت إلى أنبوب مياه صالح واحد، ابتداء من 14 يوليو/تموز، وكان هذا الأنبوب يقع عند الخط الأمامي، الأمر الذي عرّض ما يقرب من 25 لاجئاً للقتل بنيران القنّاصة.
انتشرت حالات سوء التغذية والجفاف بين الأطفال، في حين قضت "الغرغرينا والكزاز والنزيف" على عدد متزايد من الضحايا بعد نفاد المضادات الحيوية والأمصال، الأمر الذي أجبر الأطباء على اللجوء بكثرة إلى عمليات بتر الأطراف المصابة.
بسبب المجاعة التي وقعت على أهالي المخيم بسبب الحصار الذي استمر عدة أشهر، طلب اللاجئون الفلسطينيون في مخيم تل الزعتر من علماء المسلمين فتوى تبيحُ أكلَ جثثِ الشهداء كي لا يموتوا جوعاً.
– 12 يوليو/تموز، قتلت الميليشيات المهاجمة 90 مدنياً بعد استيلائها على عدة مبان.
-21 يوليو/تموز، منعت ميليشيا كميل شمعون تنفيذ خطة إجلاء 100 جريح من مخيم تل الزعتر.
– 24 يوليو/تموز، قصفت الميليشيات مخيم تل الزعتر بقذائف دبابات "سوبر شيرمان" التي سلمها "جيش الاحتلال الصهيوني" حديثاً لتلك الميليشيات، فاستشهد 250 مدنياً فلسطينياً كانوا متحصنين في أحد المباني.
بعد مفاوضات، وتدخلات دولية، سُمح في 3 أغسطس/آب، بإخلاء 334 جريحاً إلى بيروت الغربية، تبعهم 500 طفل في اليوم التالي.
– 10 أغسطس/آب، فقد المخيم أنبوب المياه الحيوي الأخير، وفي ذلك اليوم خرج 3000، وتبعهم بعد يومين بقية السكان الذين يتراوح عددهم بين 9000 و12000 مدني من المخيم.
أمرت قيادة الدفاع عن المخيم من تبقى من المقاتلين بأن ينتقوا طريقهم عبر وادي نهر بيروت، تحت غطاء مدفعي، وتمكن 3000 رجل وامرأة من الوصول إلى مدينة عالية، بعد أن فقدوا الكثيرين أثناء الطريق.
– صبيحة 12 أغسطس/آب أذاعت مكبرات تابعة لحزب الكتائب بنود الاتفاق الذي يمنع التعرض للمدنيين أثناء الخروج، لكن ما بين 1000 و2000 مدني قتلوا رمياً بالرصاص أو قطعوا ونكّلوا بجثثهم.
ووصلت الجرافات وأزالت المخيم، وبلغ عدد الشهداء أثناء الحصار 4280 شهيداً غالبيتهم من المدنيين والنساء والأطفال وكبار السن.
︎إزالة المخيم
بعد ارتكاب المذبحة، باشرت الجرافات إزالة المخيم، وهام من تبقى على قيد الحياة على وجهه يبحث عن مكان آمن، في أماكن ومخيمات أخرى في لبنان.
سوّت الجرافات المخيم بالأرض، وأهالت التراب على الضحايا والأشلاء الممزقة، لكن ما زالت رائحة الموت والبارود تفوح من هذا المخيم، وتروي قصصاً سوداء عن مذبحة إبادة جماعية ستظل عالقة في الذاكرة ضمن صفحات كتاب المجازر التي تعرض لها اللاجئون الفلسطينيون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.