لماذا وصل العراق إلى الوضع الحالي، الذي ينذر بحرب أهلية شيعية طاحنة لا تبقي ولا تذر أياً من مظاهر الحياة المدنية؟ يتصارع القادة بينما يصارع العراقي الشيعي لكي يحيا حياة آدمية، رغم أنه ينام على بحيرات من النفط الأسود.
إن العراقيين الشيعة، كشريحة اجتماعية، مكوّن أساسي مؤثر على المستويين الداخلي والخارجي، يشغل ذلك المكونّ الاجتماعي بشكل أساسي 9 محافظات تعتبر من الأكثر إنتاجاً للذهب الأسود.
تلك المحافظات، إضافة للثورة النفطية، تملك ثروة زراعية، وحيوانية، ومساحات مائية، متمثلة بالأهوار، التي تعرضت للجفاف بسبب التغير المناخي وانخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات، لكن كل تلك الثروات أصبحت خراباً؛ حيث نهبها الفساد الذي تحوّل من ظاهرة إلى بنية ثم إلى مؤسسة، حتى أضحت مؤسسة الفساد قائد البلاد الفعلي والسائر به إلى الخراب بعدما قضت على ما فيه من ثروات كان بالإمكان جعلها قبلة للمستثمرين.
السلاح المنفلت
تلك القبلة تحدثت عنها في مقال سابق بعنوان "السلاح المنفلت في العراق.. بين الحزبية والقبلية والدولة الديمقراطية المنشودة". قلت فيه إن هذا السلاح الذي دأبت قوى الإسلام السياسي الشيعية على تأطيره بالشرعية مرة لقتال القوات الأمريكية، وأخرى لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام (داعش).
وها هي وللمرة الثالثة تحاول تلك القوى أن تعطي هذا السلاح مشروعية سياسية، لتجعلهُ جزءاً "طبيعياً" من الحياة السياسية العراقية التي نعيشها اليوم. فها هي الدعوة لاقتحام المنطقة الخضراء ومجلس النواب، ومجلس القضاء الأعلى من قبل أنصار الكتلة الصدرية والمتحالفين معها تنتشر. ثم يليها الحشد الجاري على قدم وساق لأنصار الإطار التنسيقي لمظاهرة كذلك هي على أبواب المنطقة الخضراء.
وفي قلب هذا الصراع معركة أخرى إعلامية حامية الوطيس.
ولكن المسكوت عنهُ، والذي لا يريد أي طرف أن يتكلم عنه هو حجم الترسانة العسكرية التي يمتلكها كلا طرفي الصراع، تلك الترسانة التي توازي قوتها تلك التي يمتلكها الجيش العراقي بل وربما أكثر.
إن تلك القوى تحاول فرض سلاحها على الحياة السياسية والاقتصادية وجعله واقعاً مسلماً به، لكنه سلاح يفرض إرادته ومنطقه على المجتمع الشيعي أولاً. بعد الاعتراف والقبول به يكون الرضوخ لإمكانياته الفتاكة على القتل والتدمير، والتي لا يحاسب عليها أبداً.
هذا السلاح يكتسب شرعيته من الأطر القانونية المحددة لقواعد امتلاكه، لكنه لا يعترف بالقانون، ولا للقانون القدرة على محاسبته بأي شكل من الأشكال. بل يعتبر حملة هذا السلاح عملية وضع هذا السلاح في خدمة المصلحة العامة، وإبعاده عن المناكفات السياسية، مؤامرة صهيوأمريكية.
قانون "الثلث الضامن"
ما يضع العراق على مشارف حرب أهلية شيعية هو أن السلاح الذي أتحدث عنه يقع في حوزة طرفي النزاع الجاري حالياً.
تعود نقطة انطلاق النزاع السياسي الحالي إلى لحظة الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية في أكتوبر/تشرين الأول 2021. هذه النتائج التي لم يرتضِها الإطار التنسيقي، ووصفها بالمزورة والمتلاعب بها، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن يعي أنه يعيش أزمة تمثيل حقيقية بين جماهيره، والتي انعكست بشكل سلبي على الصندوق الانتخابي، لم يقبل بها وعمل على وضع جميع العوائق في سبيل عدم تشكيل حكومة يهيمن عليها التيار الصدري. كما عبر عنها الأمين "لحركة عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي أن الكتلة الصدرية في البرلمان العراقي، تريد منصب رئاسة الوزراء و9 وزارات أخرى ضمن الحكومة الجديدة. وهذا هو لب الخلاف ما بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري.
من أجل تعطيل انعقاد جلسة مجلس النواب بشكل نهائي، وقطع الطريق على الكتلة الصدرية وحلفائها من السنة والكرد في تشكيل حكومة الأغلبية التي يطمح لها التيار الصدري، فتم استحداث قانون "الثلث الضامن" كما يسميه أنصار الإطار التنسيقي إذ اقتربت المحكمة الدستورية من الأطراف الشيعية بشكل كبير وأصدرت التفسير المتعلق بانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، وابتكرت ما يُسمّى "الثلث المعطل" الذي يخلّ بنصاب الجلسة. أي إن حضور أقل من 220 نائباً للجلسة من أصل 329 لا يحقق النصاب، وهو ما يسمح لقوى "الإطار التنسيقي" بإفشال الجلسة لأنها تمتلك 130 نائباً.
هذه الإستراتيجية التي اتبعها الإطار التنسيقي بالضد من الكتلة الصدرية، في منعها من تمرير مرشحها لمنصب رئيس الجمهورية، وبالتالي مرشحها لرئاسة الوزراء "جعفر الصدر"، ما جعل التيار الصدري بقيادة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر يدعو في وقت سابق يوم الأحد الماضي رئيس الكتلة الصدرية النائب حسن العذاري إلى تقديم استقالات نواب الكتلة لرئيس البرلمان العراقي.
خطوة اعتبرها الكثير من المراقبين مهمة وخطرة في آن وقت. ولم تمر الكثير من الأيام حتى خرج الإطار التنسيقي بمرشحه لرئاسة الوزراء "محمد شياع السوداني" الذي رفضهُ التيار الصدري بشكل قاطع على اعتبار أنه ظل لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
الصراع ما بين الصدر والمالكي يعود للعقد الأول من الألفية الثانية، والعملية العسكرية التي قادها المالكي بالتعاون مع القوات الأمريكية "صولة الفرسان" ضد مليشيات جيش المهدي في مناطق الجنوب الفرات الأوسط. ومن هنا تولدت شرارة العداء بينهما، والتي كللت في الفترة الأخيرة بنشر المدوّن "علي فاضل" تسجيلاً صوتياً يتحدث فيه المالكي عن الكثير من الشخصيات ومنها مقتدى الصدر بألفاظ نابية، وعبارات جارحة. لكن لم تثر حنق الصدر هذه الكلمات مثل ترشيح السوداني من قبل الإطار التنسيقي لرئاسة الوزراء وتشكيل حكومة إطارية بامتياز يهمين عليها بشكل مطلق، ولا يدع أي شيء للتيار الصدري؛ ما جعل الصدر يدعو أنصاره لدخول المنطقة الخضراء، والبقاء فيها إلى أجل غير معلوم تحت شعار ثورة الإصلاح، وعلى الطرف الآخر بدأ الإطار التنسيقي في الساعات الأخيرة كذلك يدعو ويحشد أنصاره من أجل الدخول إلى المنطقة ذاتها من أجل حماية الدولة من الانقلاب على الديمقراطية، والدستور.
في الختام
إن العراق ومنذ 14 يوليو/تموز 1958 ومجزرة قصر الرحاب التي أنهت على جميع العائلة المالكة، وهو ينتقل من انقلاب عسكري إلى آخر، في حقب لم يعرف خلالها الشعب العراقي طعم الراحة والأمان. إن الشعب الذي يتعود على رؤية سيلان الدم لا يستطيع الانتقام إلا بالدم، كما يقول الفيلسوف ميشيل فوكو في كتاب "المراقبة والمعاقبة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.