من المؤكد أنك سمعت من قبل بالعنف المنزلي، أغمض عينيك برهة.. وحاول أن تستحضر مشهداً تمثيلياً لذلك، ما الذي تراه يحدث؟ إذا كنت كأغلب الناس فربما تتخيل امرأة تتعرض لأقصى أنواع الضرب والتعنيف أو شيئاً من هذا القبيل، غير قادرة على كبح غضب زوجها، وربما بدأ برمي كل ما لمسته يده عليها بدون تفكير، حدث كل هذا رغم أنني لم أقل لك إن المرأة هي الضحية هنا!
إن الفكرة القائلة إن الرجال يرتكبون الغالبية العظمى من أعمال العنف المنزلي لهي فكرة راسخة بقوة في الفكر الشعبي، وكما سنكتشف قريباً أنها فكرة خاطئة، على الأقل في نصف حالات العنف المنزلي.
يعتقد عامة الناس- وربما بعض الباحثين- اعتقاداً قاطعاً أن العنف المنزلي مقتصر بشكل مؤكد على الرجال فقط، وأن المرأة لطالما لعبت دور الضحية إذا ما حدث نزاع ما داخل الأسرة، وبنظرة سطحية إلى المعطيات والتوجه الفكري العربي والأعجمي سيكون هذا منطقياً جداً، وسأبدو في زاوية ضيقة إذا قلت عكس ذلك!
أحياناً نشاهد أفلاماً ومسلسلات تدين الرجال وتندد بعنفهم ضد النساء ولو بشكل ظالم، ففي الفيلم الهندي "القسم 375" "Section 375″، إنتاج 2019، شاهدنا كيف استطاعت محامية بارعة أن تتسبب في إدانة المخرج "روهان خورانا" بتهمة العنف الجنسي ضد إحدى نساء فريقه "أنجاي دنجال"! وأن القانون عجز عن حمايته في غياب العدالة الحقيقية.
أضف إلى ذلك وجود منظمات وطنية (كالمنظمة الوطنية لحقوق الطفل والمرأة- ليبيا) وأخرى دولية (كالمجلس القومي للمرأة) و(منظمة حقوق المرأة العراقية) التي تدافع عن حقوق المرأة بكل شراسة في أدنى فرصة ممكنة، وبالمقابل غياب دور أو عدم وجود أي منظمات مشابهة خاصة بالرجال.
أما إذا توجهت إلى المكتبة وألقيت نظرة خاطفة على عالم الكتب، أضمن لك أنك ستجد العديد من الكتب الرائجة التي دافع أصحابها عن حقوق المرأة ولو بنوع من الإفراط إن صح التعبير، على غرار الطبيبة والروائية المصرية نوال السعداوي في روايتها "امرأة عند نقطة الصفر" التي نشرت عام 1975 ولاقت رواجاً عالمياً وتُرجمت إلى الإنجليزية، وهذا مقطع منها: "لا يمكن لأي امرأة أن تكون مجرمة، فالإجرام يحتاج إلى ذكورة".!. دون أن ننسى دور وسائل الإعلام المختلفة (القنوات، الإذاعات) التي تسعى جاهدة للدفاع عن المرأة في كل مرة تتعرض فيها للعنف في مقابل إهمال صارخ لوضعية الرجل داخل الأسرة.
"تستخدم المرأة العنف للدفاع عن نفسها في معظم الحالات " تعتبر هذه العبارة حجة دامغة تتيح للمرأة استخدام العنف دفاعاً عن نفسها في حال ما اقتضت الضرورة ذلك. ينص تقرير منظمة الصحة العالمية على أنه: "عندما يحدث العنف من قبل المرأة يكون من الأرجح في شكل الدفاع عن النفس". ولكن توصل الباحثون إلى دوافع أخرى تعد الأكثر تسبباً في عنف المرأة، تفضلوا بقراءتها في آخر المقال.
هذا غيض من فيض للعوامل الفعالة التي تجعل المجتمع يكون فكرة مفادها أن العنف المنزلي يقتصر على نساء المعمورة بشكل أكبر مما هو عليه مع رجالها.
"أخبر العالم يا جوني.. أخبر العالم بأني أنا جوني ديب رجل ضحية للعنف من امرأة ودعنا نرَ من سيصدقك..". كانت هذه هي الكلمات التي تفوهت بها الممثلة الهوليوودية آمبر هيرد لطليقها جوني ديب بعد تأزم علاقتهما.
تابعنا محاكمة الممثل الهوليوودي "جوني ديب" وطليقته "آمبر هيرد" وقد نالت هذه المحاكمة حظاً وافراً من الشهرة، وكما يعلم المطلعون على هذا الأمر، فقد ادعت هيرد أن ديب مارس عليها الاعتداء المنزلي بمختلف أنواعه، ولم تقف عند هذا الحد، بل قامت باستغلال منظمة العنف ضد المرأة من أجل التأكيد على أكاذيبها، لكن وبفضل الجهود الوافرة التي بذلتها محامية ديب، فاز هذا الأخير بالمحاكمة، وتبين أن مهارات هيرد في التمثيل لا تقتصر على الأفلام فقط. وأنها هي التي مارست العنف المنزلي (النفسي، الجسدي) ضده.
هذا مجرد مثال واحد واقعي وعلني من العديد من الحالات الكثيرة، الخفية والمماثلة التي عانى فيها الرجال من العنف المنزلي من طرف شريكاتهم في الحياة.
إذاً ما نصيب الطرح التالي من الصحة: يعتدي الرجال والنساء على بعضهم البعض بالمعدل نفسه تقريباً، على الرغم من أن مزيداً من النساء يعانين من إصابات بالغة نتيجة ذلك.
إذا كنت ترى أن هذا محال! إذا كن مستعداً لما ستقرؤه من حجج تقوم على معلومات مدهشة، فيما هو آتٍ.
يمكن أن ترتكز الفكرة أعلاه على الحجج التالية:
أولاً: نتائج الدراسات.
نتائج العنف البدني
تم تقديم أول دليل تجريبي على التساوي بين الجنسين في معدلات العنف في الدراسة الاستقصائية الوطنية للعنف في عام 1975 التي أجراها ستاريس وجيلز حيث كشفت أن 11.6% من النساء و12% من الرجال عانوا من عنف الشريك.
وأن معدلات العنف الشديد كانت متماثلة تقريباً 4.6% من الرجال و3.8% من النساء عانوا من العنف الشديد من الشريك ورغم ذلك فقد تم تجاهل هذه النتائج ولم يجد العلماء سهولة في نشرها لأنها ناقضت المعتقدات، إلا أن سوزان ستينميتز لم تفعل وتحملت عبء الانتقادات، كما أكد الباحث أنه تم إجراء 200 دراسة أكدت على التماثل بين الجنسين في معدلات العنف.
– تجد بعض الدراسات ارتفاع انتشار العدوان البدني الذي ترتكبه النساء.
فقد أظهرت الدراسة الوطنية للعنف الأسري التي أجريت على 6002 شخص، أنه في السنة التي سبقت الدراسة، أبلغت 12.4% من الزوجات بأنهن يستخدمن العنف ضد أزواجهن مقارنة بـ11.6% من الأزواج الذين أبلغوا عن أنفسهم بأنهم يستخدمون العنف ضد زوجاتهم، وعلاوة على ذلك أبلغ 4.8% من الزوجات عن استخدامهن العنف الشديد ضد أزواجهن بينما أبلغ 3.4% من الأزواج عن استخدام العنف الشديد.
– وجدت أيضاً دراسة مع عينات جامعية أن الرجال والنساء يرتكبون معدلات مماثلة من العدوان البدني.
العنف النفسي
– توصلت دراسة استقصائية للعنف الأسري إلى أن النساء والرجال مارسوا العنف النفسي بنفس المعدل على بعضهم البعض؛ حيث أفاد 74% من الرجال و75% من النساء أنهم ارتكبوا سلوكاً عدوانياً واحداً على الأقل ضد شريكهم في العام الماضي وتم العثور على مستويات مماثلة من العنف النفسي بين العينات الكلية.
ثانياً: الرجولة
الرجل الذي يتعرض للعنف المنزلي يجد صعوبة بالغة في التبليغ عن ذلك، حتى إن حالات التبليغ من طرف الرجال قليلة أو شبه منعدمة، ففي بحث استكشافي إسباني وجد أصحابه أنه حالياً، نادراً ما يتم تسجيل شكاوى العنف ضد الرجال، وهو وضع لا يسمح حتى الآن بتحديد الحجم الحقيقي للرجال الذين يعانون من هذا العنف غير المرئي وترجع الصعوبة إلى عدة عوامل، أبرزها الصورة النمطية للرجل فيما يتعلق بما هو متوقع منه كرجل؛ فهو رب الأسرة وهو الحامي ورمز القوة، إضافة إلى الكبرياء. فقد يقال إنه من العار أن تضرب زوجتك، ويضاف إلى ذلك الخوف من السخرية، فمثلاً لا أستبعد أنه لو قدم رجل ما شكوى للشرطة لربما سخر منه الشرطي… وهكذا، وأفترض أنكم متفقون معي في هذا الخصوص.
الجهل القانوني: تسن إسبانيا القانون 19325 الذي يصنف العنف المنزلي ضد الرجال، وفي هذا السياق توصل نفس البحث السابق إلى أن معظم الرجال يذكرون أن "القانون قد وضع للنساء، وبالتالي فالمرأة هي الوحيدة المفضلة في مجال العنف الأسري". كما تم التعرف على أن الرجال ليسوا على دراية بمحتويات القانون.
فيما يخص المؤسسات التي ترعى الرجال المعتدى عليهم، يمكن الاستدلال من الآراء التي تم التعبير عنها أنه لا توجد مؤسسة حصرية تهتم بهم بسبب العنف داخل الأسرة. ويجدر بنا أن نتذكر أولى الحركات النسوية التي تم تنظيمها لحماية الضحايا في إسبانيا كانت في أوائل الثمانينيات، حيث كانت الشكاوى قليلة، لأنها لم تكن تعتبر مشكلة وتم الاحتفاظ بها داخل الأسرة. ومع ذلك، فقد انقضى ما يقرب من 20 عاماً لشرع التشريع ولزيادة هائلة في شكاوى النساء، وبالتالي حصلت المرأة على قوانين تحميها من العنف المنزلي، إذاً هل يمكن القول إننا ما زلنا في أولى الحركات الرجالية؟
دور وسائل الإعلام: الرأي شبه الإجماعي هو أن "وسائل الإعلام سواء كانت إذاعية أو تلفزيونية أو صحفية أو غيرها"، لا تعتبر الرجال الذين تعرضوا للاعتداء ضمن استراتيجياتهم لمنع العنف الأسري، بحجة أنهم لا يتعرضون للعنف. لأنه فقط- وإذا فقط- كانت هناك نسبة مئوية أعلى عندها يمكن أن تبدأ حملات الدفاع عن الرجال، فهم لا يقتربون من الرجال لأنهم لا يعتقدون أنهم يعانون ويعتقدون أن المرأة هي التي تعاني دائماً.
إذاً تضامن المجتمع في علاقة طردية مع مدى قدرة الرجل على التبليغ عن عنف الشريكة.
ثالثاً: (متعلق بالحجة الثانية) غياب الدراسات الشاملة
حالات تعنيف الرجال موجودة في كل الدول، لكن لا توجد بيانات وإحصاءات محددة؛ لأن أغلب الرجال المعنفين لا يتقدمون بشكوى للجهات المعنية (بندر خالد مفتي محام سعودي لقناة روتانا).
من خلال اطلاعي على بعض الأبحاث، وقفت على أمر مهم، حيث توحدت مواقف الكثير من الباحثين والمؤلفين على مدى صعوبة العمل على موضوع العنف المنزلي ضد الرجال بشكل خاص، لأنه يدخل في مجال التناقضات والاستقطاب والعنف المنزلي بشكل عام بسبب عدم الإبلاغ عن الحالات.
كما اختلفت الدراسات في تحديد من هي الضحية في كل مرة يحدث فيها عنف منزلي، ويمكن أن يكمن السبب في عدم وجود بيانات في بعض الدول وأيضاً إلى عزوف الرجال عن تقديم شكاوى للأسباب السابق ذكرها.
قام مؤلفو كتاب "أشهر 50 خرافة في علم النفس" بإدراج معتقد "اتهام الرجال بغالبية العنف" ضمن تلك الخرافات.
وأرى أنه من العدل أن أقول إنه رغم احتمالية تساوي الرجل والمرأة في معدلات العنف المنزلي كبيرة جداً، إلا أن المرأة تكون أكثر تضرراً من حيث الإصابات.
اكتشف ماكيدون وكيد بعد أن تم تكليفهما ببحث من طرف وزارة الصحة والأطفال الأمريكية بكتابة revwe عن تجربة الرجال في العنف أن نتائج العنف المنزلي من حيث الإصابات الجسدية والنفسية تميل إلى أن تكون أكثر سلبية بالنسبة للضحايا من النساء منها بالنسبة لنظرائهن من الرجال.
رابعاً: الأسباب الحقيقية لعنف المرأة
لا ترتكب المرأة العنف دفاعاً نفسها في كل الحالات؛ فقد أفادت شركة بيرسون 1997 أن 90% من النساء اللواتي درستهن اعتدين على شركائهن بسبب الغضب، الغيرة والإحباط وليس دفاعاً عن النفس؛ وعليه تكون الدوافع الأكثر اعتياداً للعنف النسوي هي نفس دوافع الرجال (الغضب، الغيرة والإحباط).
ومن بين 6 دراسات أجريت وجدت دراسة واحدة أن نسبة ارتكاب العنف دفاعاً عن النفس للرجال 52% تقابلها 42% للنساء.
وعليه يمكن استنتاج التالي: "يعتدي الرجال والنساء على بعضهم البعض بالمعدل نفسه تقريباً، على الرغم من أن مزيداً من النساء يعانين من إصابات بالغة نتيجة ذلك".
وقبل أن أختم أؤكد أنني لست بصدد تجريم المرأة ولا الانتقاص من قيمتها، فهي ذات عزة نفس ومستوفية لكامل حقوقها في دين الإسلام.. ولا بصدد إهانة الرجل أو إظهاره في موقف ضعيف.. لكن وجب دراسة ومعالجة مشاكل الأسرة بعيداً عن المنطق أحادي الجانب؛ ما قد يمنحنا مستقبلاً الضوء الأخضر للمضي قدماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.