ونحن صغار نتطلع دائماً للأفضل، نحلم ونتمنى ولا نعير كثير اهتمام لكون تلك الأحلام صعبة أم سهلة المنال، نحلم وفقط. نشاهد التلفاز أو نستمع إلى الراديو، نراقب صور العظماء والمشاهير ونتمنى أن نكون منهم، ليس لسبب محدد إلا لكونهم مشاهير. لكن حينما نكبر نضطر للتأقلم مع الواقع، نختار الاجتهاد في الدراسة بدلاً من الاستمتاع بالطفولة، نختار الوظيفة بدلاً من الهواية، ولكن؛ هل ينسينا الواقع الحلم والأمنية؟
سيد أبو حفيظة يرحب بكم
منذ 10 سنوات كان التلفاز بالنسبة لي كطفل اختراعاً عظيماً لم يفقد كل جاذبيته بعد. مئات القنوات والبرامج ومباريات كرة القدم، وبحكم الطفولة لم أكن حراً بشكل كامل في مشاهدة ما أريد وقتما أريد، وأغلب ما يشاهده الكبار لم يكن يروق لي. ولكننا اجتمعنا على مشاهدة "نشرة أخبار الخامسة والعشرون" كفاصل إبداعي صغير يلتقط كل شخص منا فيه ما يسخر منه مقدم البرنامج.
على قناة "موجة كوميدي"، التي انتشرت سريعاً بسبب اعتمادها كلياً على اللهجة العامية وبرامج السيت كوم ومحاكاة التوك شو بشكل هزلي، حجز "سيد أبو حفيظة" مكانته في قلوب الناس بطريقته الساخرة، وملابسه التي تمزج بين موظف حكومي في ثمانينيات القرن الماضي ببدلة صيفية أو شتوية بألوان غير متناسقة، مع منديل رأس فلاحي، بالإضافة لتقديمه خطابات هزلية بنبرات ممتلئة بالجدية وملامح وجه لا تستطيع أن تكتم ضحكاتك أمامها.
ومن خلال فقرات قصيرة جداً تستعرض أخباراً فكاهية الطابع حول حياة المواطن المصري العادي؛ لم يكن ممكناً لطفل في عمري إلا أن يتابع هذا السيد بشغفٍ كبير. فيما بعد سأقرأ التتر الذي يمر بسرعة البرق لأقرأ اسم "أكرم حسني" كمؤدٍّ رئيسي للشخصية، بالإضافة لكونه كاتب الحلقات والأغاني المركبة على ألحان أغاني أخرى يتم تقديمها في النشرة بشكل ساخر. فيما بعد أيضاً سأربط الاسم باسم مقدم برامج الراديو على إذاعة FM، وستشاركني أختي الكبيرة في الاستنتاج نفسه باعتبارها الوحيدة التي تملك راديو محمولاً في البيت تسمع من خلاله ما تريده فقط!
من البداية الملهمة سيظهر أكرم حسني بعد نجاح الشخصية التي صنعها ومنحها حضوراً كبيراً، وحازت القبول لدى كل الناس، ولكن هذا سيحدث حينما ينتقل من محطة التلفاز الصغيرة لمحطة أكبر، وحينما ينجح في خلق تاريخ لشخصيته الرئيسية "سيد أبو حفيظة" بإنتاج برنامج يحكي عن حياة أبو حفيظة كشخصية إعلامية عظيمة، ويمنحه اسماً مناقضاً لوثائقي قصة حياة الهضبة عمرو دياب الذي حمل اسم الحلم، ليعنون برنامجه هو باسم "الكابوس"، ويستضيف مشاهير البرامج الإعلامية مثل عمرو أديب، وكبار الصحفيين مثل مفيد فوزي، ليخلق أسطورة كاملة من وحي خياله تنفي توقعاتي عن أن هذا الشخص غير موجود بالفعل.
بعدها سيظهر أكرم حسني بلا مكياج، وبلا حضور لسيد أبو حفيظة، ليحكي عن نفسه هو كرجل توجه لفعل ما يحبه كما كان يحلم.
من الشرطة إلى الفن.. حيث وجدوا أنفسهم
يُعد أكرم حسني أحد أشهر الفنانين الذين تركوا قطاع الشرطة وتوجهوا للفن، ولكن العديد من الشخصيات الفنية والإعلامية البارزة ساروا على النهج نفسه منذ سنوات عديدة لرغبتهم في إيجاد أنفسهم أو تغيير نظام حياتهم، ومن أولئك "أحمد السقا"، الذي كان في كلية الشرطة قبل أن يسحب ملفه دون علم والده ليلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ليصبح أحد أشهر نجوم السينما بعد ذلك. بالإضافة للمعلق والمحلل الرياضي الشهير "مدحت شلبي"، الذي استقال من منصب مساعد رئيس قطاع الأحوال المدنية لممارسة رياضة كرة القدم، قبل أن يتوجه للتحليل والتعليق.
ومن نجوم الزمن القديم ورواد السينما المصرية أحمد مظهر وصلاح ذو الفقار وإيهاب نافع ومحمود قابيل، الذين باختلاف فترات نجاحهم وتباين مستويات نجوميتهم أعلنوا في لقاءات عديدة أنهم توجهوا للفن في فترات حياتية صعبة في حياتهم، شعروا فيها بضرورة فعل ما يريدون وليس ما يجب فعله، بناءً على خلفية اجتماعية سابقة، نظراً لانحدارهم من عائلات ذات خلفية عسكرية أو مقارنة مكانتهم الاجتماعية بما ستكون عليه حينما يكونون نجوم سينما حيثما كانت السينما في ذلك الوقت تقع في رتبة أقل في ترتيب السلم الاجتماعي.
أكرم حسني.. الضابط الذي ندهته النداهة
"أنا ابن المؤسسة العسكرية، يعني أنا متربي على حماية الحقوق وليس سرقتها".
بهذه الجملة دافع أكرم حسني عن نفسه حينما تم اتهامه بـ"اقتباس" كلمات أغنية "للّي" الصادرة حديثاً للكينج "محمد منير"، والتي أثارت جدلاً واسعاً منذ الإعلان عنها واطلاقها على مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب. نشبت الأزمة من وجود بيت شعري في كلمات الأغنية مشابه لما كتبه الشاعر المصري عادل صابر.
يعود تاريخ البيت محل الخلاف أولاً للشاعر عادل صابر الذي كتب:
"واللي فتح باب خراب.. واجب عليه رده"
الذي يقول عنه الكاتب المصري فتحي عبد السميع إنه ظهر لأول مرة على الفيس بوك في أحد الفيديوهات، حيث ألقاها الشاعر في أمسية بإسنا سنة 2011. كما نُشر في ديوانه "بحر الدميرة" الصادر سنة 2014 عن دار عماد قطري، ص38. بينما أتت كلمات أكرم تالية في العام الحالي بـ: "اللي فتح باب الوجع واجب عليه ردّه".
والفاصل الزمني بين القصيدتين كبير، وباختلاف تجربة كل شاعر كان من الممكن عدم وجود أزمة كبيرة إذا وصلت الأمور لأرض وسط، إذا اعترف أكرم بالاقتباس أو عدم ذكره المصدر لسبب ما أو أي سبب، كان من الممكن ألا يلتفت أحد من الأساس لو لم يتحول صاحب الكلمات الأصلية في نظر مقدمي البرامج الإعلامية إلى جانٍ ليس كمجني عليه، لولا توجيه الاتهامات بشكل مبطن لعادل صابر بالادعاء والغيرة من نجاح أكرم أو تعاونه مع محمد منير.
تتشكل الأزمة في عدم فهم أولئك مفهوم الإبداع والكتابة لدى كل فنان، بالإضافة للنظرة الطبقية التي تضع أكرم ابن المدينة والمؤسسة العسكرية سابقاً بجانب شاعر جنوبي ربما لا نلتفت إلى منتجه الفني لأسباب متعددة. وربما لعدم اعتراف البعض بإمكانيات أكرم حسني الهائلة وتعدد مواهبه في التمثيل والتلحين والغناء.
ولكن كل هذا تسبب في صدور اتهام آخر لأكرم بعدما استيقظ محبو الكينج محمد منير على خبر حذف الأغنية من اليوتيوب لأنها تحتوي على ألحان مسروقة! قصة اللحن هذه لم تجد لنفسها مساحة كبرى على الفضائيات على الرغم من وجود سطو على لحن فلكلوري تراثي مصري بشكل كامل تم وضع اسم أكرم عليه.
لم يجد مقدمو البرامج التافهة، التي لا تناقش أشياء مهمة، في "اقتباس" أكرم حسني للحن أي أهمية، بل سارعوا لتقديم حسن النية إكراماً لتاريخ محمد منير ولدفاعهم المستميت عن أكرم في أمر بيت عادل صابر. يدفعني الموقف الضبابي للتساؤل عن مدى قيمة الموقف الحيادي في القضايا الأخلاقية؟
لا أظن أن عادل صابر كان يطمع في أي شيء يمتلكه أكرم حسني من نجومية أو مجد كصاحب أحدث أغاني محمد منير، الذي يُعد أحد أهم النجوم المصريين على مر التاريخ، ولكن دفاع عادل صابر كان مستميتاً لأنه صاحب حق ولا شيء آخر، هو رجل يمتلك تجربة إبداعية ليس هنا مجال لتقييمها، فجأة وجد شطره مسلوباً بعد مرور الزمن لأنه يمثل قيمة إبداعية، وبدلاً من اعتذار السارق أو الاعتراف بالخطأ رأى عادل أكرم حسني ضيفاً على شاشات التلفاز كرجل في ورطة متأزمة من الشاعر الذي يدافع عن حقه! وبدلاً من وضع الأمور في نصابها الصحيح، ووقوف الجميع على مسافة واحدة تجاه ما زعموا أنه مجرد خلاف في الرأي؛ شاهد عادل صابر أكرم حسني كنجم بينما اكتفوا بمهاتفته فقط كي يتم حبك مسرحية الحياد الذي يدّعونه باطلاً.
لماذا يتوجهون للفن؟
الفن بكل ما تحمله الكلمة من اتساع أمر غير مقصود به النجومية أو الشهرة الهائلة، ولا حجز مقعد كضيف دائم على برامج التوك شو أو سعي الناس التقاط الصور معك أينما حللت.
أن يكون المرء فناناً هو رهان حقيقي على قيمة التجربة، على قيمة حياتك ككل إذا ساهم هذا الفن في تغيير أو لمس أعماق إنسان آخر. القصيدة والأغنية والقصة والرواية فن، ولكن ما المرجو حقيقة من ممارسة هذا الفن؟
في رأيي نحن نعيش في فترات ازدحام، وقت صعب يمكن فيه ادعاء وتزوير أي شيء، يمكن للمقلد أن يحل محل الحقيقي بصورة مطابقة، ويمكن للهراء على الورق أن يصبح الأكثر مبيعاً، وللابتذال أن يتصدر دور العرض السينمائية والدراما، ولكن الحقيقة دائماً تكمن وراء كل هذا، ما الفائدة من كل هذه الغزارة إذا لم تؤثر في صاحبها، مُبدعها أو مدّعي إبداعها من الأساس؟ لمَ يدّعي أي شخص ما ليس حقيقياً؟
وما قيمة أي تجربة فنية إذا اختفت نهائياً بلا أي أثر بعد فترة من الوقت، بالإضافة لوجود حقيقة واحدة أن لا شيء يصمد أمام الزمن أكثر من الحقيقة. هل الشهرة اللامعة وحدها ما يدفع البعض لتغيير حياتهم رأساً على عقبٍ في مقابل أي شيء، هل يمكن أن تكون ندّاهة الشهرة هي دافع البعض لادعاء إبداع مُقلد!
الرحلة في الفن طريق غير ممهد، رحلة مليئة بالفشل قبل النجاح والتعب قبل الراحة، رحلة ما أن يخوضها المرء بصدق حتى يتغير من داخله بشكل كامل، يبدو المغزى جذاباً هو الآخر، ولكن كل الصور البلاغية التي تبدو مستهلكة كفيلة بتعريف القيمة مقابل المظهر الخارجي، لذا فإن ما قد يبدو سؤالاً في الوقت الحالي ربما يمنحه الزمن قدرة التحول إلى إجابة واضحة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.