عرفت قضية الدين نقاشات في غاية الأهمية في العصر الحالي، وبشكل خاص ما بعد القرن الثامن عشر، النقاش الفلسفي حول قضية الدين يعود إلى بداية عصر النهضة، وبشكل خاص مع ظهور ما سُمي بالإصلاح الديني مع مارتن لوثر، حيث ظهرت مناهج جديدة لقراءة التراث القديم، والذي كان يشكل فيه الدين القسط الأكبر، غير أن هذا النقاش سيعرف محطات متعددة، حسب طبيعة كل قرن، فإذا كان النقاش سيبدأ بالإصلاح فإنه ما إن وصل عهد الأنوار، أي القرن الثامن عشر، حتى بدأت تظهر دعوات إلى القطيعة والتجاوز، تجاوز كل فكر ميتافيزيقي غير مادي، وبشكل خاص مع ظهور المنهج التجريبي، الذي لم يقتصر دوره على العلوم الطبيعية فقط، بل بدأ يتعداها إلى علوم أخرى، حيث سيبدأ رواد هذه العلوم في تبني المنهج التجريبي، ليُثبتوا حقيقتها وصدقها، وهناك ستبدأ في الظهور علوم جديدة، أو هي ستبدأ في الانفصال، مثل التاريخ، والقانون، وعلم الاجتماع، وما يهمنا في هذا المقال هو علم النفس، وخاصة مع رائده فونت، الذي أسس لما أصبح يسمى فيما بعد علم النفس التجريبي، لا يهمنا هنا التحدث عن تاريخ علم النفس وكيفية ظهوره، بقدر ما يهمنا الحديث عن أهم تياراته، وما موقفهم من قضية الدين، فإذا كان النقاش حولها فلسفياً انتقل من الإصلاح إلى التجاوز والقطيعة، قبل أن يعلن عن عدم وجود دين، فماذا يقول علم النفس في قضية الدين، سنرى ذلك من خلال الحديث عن أهم تيارات علم النفس الكبرى.
السلوك والدين
من المعلوم أن التيار السلوكي في علم النفس، والذي يعد من رواده جون واطسون، كان متأثراً فلسفياً بالتفسير الفيزيائي للكون، وبالتالي فهو رَامَ أن يخلص علم النفس من التفسيرات الميتافيزيقية، وبالمقابل فهو يرى أن جميع الأنشطة التي تقوم بها الكائنات الحية، مثل الشعور والتفكير، هي عبارة عن سلوكيات، وما يحدد هذه السلوكيات هو عامل مثير استجابة، فجميع أنشطة الإنسان هي عبارة عن مثير واستجابة، ولا دخل للذهن في هذه الاستجابات، كان هدف السلوكيين من هذا الأمر هو أن يتجاوزوا منهج الاستبطان الذي كان مسيطراً في علم النفس، ولذلك فهم راموا دراسة سلوك الإنسان، لأنه سلوك ظاهر وملاحظ ويمكن قياسه، أي أنه مادي، وكانوا يرون أن علم النفس بغية أن يصبح علماً حقاً عليه أن يدرس ما هو واضح من الإنسان، وهو السلوكي المادي الذي يمكن قياسه وملاحظته، وبغية تفسير سلوك الإنسان، جاء رواد المدرسة السلوكية بمجموعة من المبادئ، مثل مثير واستجابة، والذي يقصدون به أن لكل مثير في الوسط الطبيعي استجابة، كما أن لكل استجابة دافعاً معيناً.
لاحقاً سيضيف سكينر بعض الإصلاحات على مبادئ هذه النظرية، والتي ظهرت مع واطسون وبافلوف، حيث أضاف مفهوم التعزيز، والانطفاء، والتعميم، ويقصد بها أن السلوك إذا لم يتعرض للتعزيز من المحيط فإنه سيتعرض للانطفاء، فالسلوك كي يظل لا بد له من معزز، هذا المعزز يكون بمثابة مقو ومؤكد لصحة هذا السلوك، وبالتالي فإنه يستمر، أما إذا لم يتعرض هذا السلوك للتعزيز، أو تعرّض على العكس من ذلك للكبح، فإنه ينطفئ، وبالتالي فإنه يختفي، وأما التعميم فإنه يقصد به أن الاستجابة لا تتوقف عن مثير معين، وإنما الفرد أو الكائن الحي يعمم تلك الاستجابات على باقي المثيرات، إذا كانت تتشابه مع المثير الذي أحدث الاستجابة الأولى، هذه لمحة عن النظرية السلوكية بصفة عامة، وما يهمنا منها هو كيف أنها فسرت النشاط الإنساني، ورأينا أنها حددته في السلوك، ونفت باقي الأمور الأخرى، الاعتقادات مثلاً، وهذا السلوك يتحكم فيه أمران هما المثير والاستجابة.
لم يتحدث رواد السلوكية عن الدين بصفة مباشرة، كما أنهم لم يتحدثوا عن أمور أخرى كثيرة، غير أنه بتطبيق نظريتهم يمكن أن نفهم موقفهم من الدين، والذي لم يكن مختلفاً عن باقي التيارات الفكرية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، حيث طغت على العلوم الكونية، ومنها الفلسفة، النزعة المادية، التي كانت متأثرة بالتفسير الفيزيائي للكون، وبالتالي فإنهم كانوا يرفضون أي تفسير آخر للكون، ولا شك التفسير الديني، هذا الأمر لن يستمر طويلاً، بل إن هذه العلوم، ولا شك ما يسمى بالعلوم الإنسانية، التي كانت ترمي إلى تبني المنهج التجريبي وتطبيقه بصورة حرفية في العلوم الإنسانية، ستتلقى انتقادات لاذعة، وستتجاوز هذا الأمر، وستبدأ هذه العلوم باستحداث مناهج خاصة بها، وإن كانت هي متأثرة بالمنهج التجريبي، وبالتالي فإن المدرسة السلوكية نفسها ستتلقى انتقادات لاذعة من تيارات أخرى ستأتي لاحقاً، وعلى رأسها تيار علم النفس المعرفي، الذي سيحل لغز العلبة السوداء، وهي الذهن، فالدين إذن حسب السلوكية هو عبارة عن مثير واستجابة وهو متعلَّم كباقي السلوكيات الأخرى.
التحليل النفسي والدين
قبل الحديث عن مبادئ التحليل النفسي فلا بد من التطرق ولو قليلاً إلى الجو الفكري الذي نشأ وترعرع فيه مُنظر هذا التيار، وهو سيجمون فرويد، لم يختلف هذا الجو الفكري كثيراً عن ذاك الذي كان يسود العالم الغربي، منتصف ونهاية القرن التاسع عشر، وهو ما سبق ذكره، أي التيار المادي، الذي لم يكن يؤمن بأي فكر ميتافيزيقي، فرويد رغم انتمائه إلى عائلة يهودية متدينة، مثل جولد زهير المستشرق الكبير أيضاً، ويشتركان في الكثير من ملامح حياتهما، فإن فرويد على عكس جولد زهير لم يكن ممارساً للطقوس الدينية، بل كان أقرب بحكم تكوينه العلمي أولاً كطبيب ثم بحكم الحقبة التي كان يعيشها، إلى التفسيرات المادية للكون، ولذلك سعى طوال حياته، والتي كانت عبارة عن تناقضات، إلى جعل التحليل النفسي علماً قائماً بذاته، وهذا ما دفعه في الكثير من الأحيان إلى اختلاق أكاذيب وتزوير حقائق بشأن مرضاه، حسب ما تكشف عنه مراسلاته لاحقاً، والتي كانت مادة للكتاب الأسود الذي هدّ كيان التحليل النفسي.
يرى فرويد أن الجهاز النفسي للإنسان يتكون من ثلاثة مبادئ، وهي الأنا، وهو من طبيعة نفسية، والأنا الأعلى وهو ذو بعد أخلاقي، أي أنه مجموع القيم والمبادئ التي يؤمن بها الفرد داخل مجتمع ما، ثم الهو، وهو ذو طبيعة بيولوجية، وهو يتكون من الغرائز، وهذه الغرائز نوعاًن: غرائز الحياة، وهي التي تضمن بقاء الإنسان، من خلال سعيه للمتعة واللذة، وغرائز الموت، وهي غرائز العنف والعدوان التي في داخل الإنسان، والتي تسعى إلى تدمير وجوده، فالكيان النفسي للإنسان يتكون من هذه العناصر، وهي في تفاعل مستمر فيما بينها، وانطلاقاً من هذه المبادئ أو المكونات سيسعى فرويد إلى تفسير كل أنشطة الإنسان، وسلوكياته كذلك، كما أن من خلالها سيكشف أيضاً عن جميع الأمراض والاضطرابات التي يكون الإنسان معرضاً للإصابة بها، ورد هذه الأمراض إلى عدم التوازن بين هذه المكونات، والتي هي كما سبق مكونات الجهاز النفسي للإنسان.
تحدَّث فرويد عن الدين في كتب عدة، بل هو ربما من علماء النفس القلائل الذين تناولوا قضية الدين بشكل مباشر، إضافة إلى وليام جيمس، ويونج أيضاً، تحدث فرويد عن الدين عند حديثه عن الأنشطة الثقافية والفنية التي يعرفها الإنسان، وعدّ الدين كأحد الأنشطة الثقافية، ويرى الباحثون أن آراءه حول الدين مرت بأربع مراحل، وتحدث عنها في أربعة كتب، وهي الطوطم والمحرم، موسى وعقيدة التوحيد، ثم الحضارة وكروبها، وأخيراً كتابه مستقبل أخدوعة، لكن من خلال جميع هذه الكتب فإن تفسير فرويد لم يختلف عن باقي المفكرين والفلاسفة الذين كانوا في عصره متأثرين بالنزعة المادية، أي هو نفسه فسر الدين تفسيراً طبيعياً، لكنه مع ذلك ظل عاجزاً عن تفسير الكثير من مظاهر التدين، مثل حالات الخطف والوجد، والتجارب العرفانية، بالرغم من أنه رأى السلوكيات الدينية عبارة عن وساوس قهرية، وهذا يعني أنه لم يكن على علم حقيقة بالمشاعر الدينية.
غير أن رائداً آخر من رواد التحليل النفسي كان له رأي مخالف، وهو كارل جوستاف يونج، وهو ابن قسيس، فهو على عكس فرويد ينتمي إلى الدين المسيحي، وقد انشق عنه وخالفه في بعض مبادئ التحليل النفسي، وبشكل خاص حينما اكتشف ما أصبح يسمى باللاوعي الجمعي، وذلك على خلاف فرويد، الذي كان يرى باللاوعي الفردي، وأن الجنس هو المحرك الأساس لغرائز الإنسان، قبل أن يضيف إلى الغرائز الجنسية غرائز العدوان، لكن يونج على خلاف فرويد نظر إلى الدين نظرة إيجابية، وإن كان تفسيره للدين مختلفاً، غير أنه رأى أن الدين هو من مكونات نمو شخصية الإنسان، وأنه حاجة ضرورية للإنسان، وليس نوعاً من أنواع العصاب كما رأى فرويد.
يقول يونج بالإله النفسي، ومفهومه عنده أنه أقرب إلى مفهوم الإله الذي يؤمن به الفلاسفة الطبيعيون، ويرى يونج أن الله هو أنموذج مثالي، وهو جزء من روحنا الذي يعد قديماً بالنسبة إلى وعينا، فهو لا يمكن أن يكون اختراعاً واعياً، وملخص رأيه حول الدين، صحيح أنه لا يقول بمفهوم الله كما هو في الأديان، لكنه يرى أن الدين هو حاجة نفسية، ولا يمكن أن يكون الإنسان قد اخترعه، وما دام أن الدين حاجة نفسية، فإن الإيمان يمكن أن يكون أحد العلاجات للاضطرابات التي يمكن أن تصيب الإنسان، وهذا ما يصرح به هو نفسه، إذ يقول إن جميع المرضى الذين زاروه كان المشكل الوحيد الذي يواجههم، هو فقدانهم رؤية دينية للكون، ولم يعالجوا إلا باستعادة تلك الرؤية.
وليم جيمس ونظرته النفعية إلى الدين
يعد وليم جيمس واحداً من رواد علم النفسي التجريبي، وهو تلميذ لفونت، ومؤسس لعلم النفس في أمريكا أيضاً، غير أنه يعد كذلك رائداً من رواد الفلسفة النفعية، وبالتالي فإنه نظر إلى الدين نظرة نفعية، أي نظر إلى الدين حسب الوظيفة التي يؤديها، ولم ينظر إلى أصله وهل هو صحيح أم لا، بل نظر إلى فائدته ومنفعته التي يؤديها داخل المجتمع، هذا النظر هو أقرب إلى الرأي الذي قال به يونج، وكذلك الفلاسفة الذين تحدثوا عن الإله الطبيعي، هذه النظرة ستؤثر في الأجيال السابقة، بل ولا يستبعد القول إنها مستمرة إلى اليوم عند علماء النفس في أمريكا، كما أن نظرة فرويد إلى الدين ظلت لسنين هي المهيمنة على المشهد، وخاصة في فرنسا، والدول ذات التوجه الفرنكفوني.
عالج وليم جيمس الدين باعتباره تجربة روحية شخصية ذات أصول سيكولوجية، وهذه الأصول السيكولوجية لها امتدادات فيسيولوجية، وبذلك فهو يرى أن الإيمان من عدمه لا تتدخل فيه أي اعتبارات منطقية، أو عقلية، بل هو تجربة شخصية، وقد وضح في كتابه البراغماتية موقفه من الدين، وأنه لا يقول بالإلحاد، كما نفى عن نفسه هذه التهمة التي لطالما ألحقت به، كما بين ذلك في كتابه أيضاً أنواع التجربة الدينية، ويرى جيمس أن هناك شعورين اثنين، هما مصدر الدين، وهما شعور التفاؤل والتشاؤم، وعد أصحاب النظرة الأولى هم مولودون مرة واحدة، وعند أصحاب النظرة الثانية هم مولودون مرتين.
فأصحاب نظرة التفاؤل بالحياة هم أولئك الذين يكونون دائماً على انطباع واحد، وأنهم ينظرون نظرة تفاؤل وحب إلى الحياة، حتى وإن بدت لهم بعض الأمور التي تمثل الشر فإنهم يسعون إلى التخلص منها، فهؤلاء تكفيهم ولادة واحدة حسب رأيه، غير أن هناك من ينظرون إلى الكون نظرة تشاؤم وفوضى، وهؤلاء في حاجة إلى ولادة ثانية، حتى يُبعثوا من جديد، وما دام أن الدين هو تجربة إنسانية فإنها تتنوع وتختلف بحسب الأفراد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.