في كثير من المواقع القانونية المتخصصة، ستجد تعريفاً موجزاً لقائمة المنقولات، أو ما يُطلق عليه في العرف المصري بـ"القايمة"، بأنها بمثابة عقد من عقود الأمانة التي نصّ عليها قانون العقوبات المصري، وهي ورقة يُكتب فيها كل ما اشتراه الزوج والزوجة من أشياء وأثاث ومتاع وثياب وغيره بأسعاره الثابتة، وأنه يجب على الزوج أن يقر بالتوقيع الرسمي أنه استلم "القايمة الزوجية" على سبيل الأمانة، وأنه كذلك ملتزم بشكل صريح بردها متى طُلب منه ذلك، لا سيما عند الطلاق. وهذا عُرف اشتُهر بين المصريين، يفرض على الزوج رد عفش الزوجية كاملاً أو ما يقابله مالاً، بخلاف حقوق المطلقة الأخرى، كالنفقة ومؤخر الصداق وغير ذلك.
لكن اللافت أن كثيراً من المحامين والمتخصصين القانونيين يؤكدون أن محاكم الأسرة في مصر تكتظ بالدعاوى المتعلقة بقائمة المنقولات "القايمة"، سواء من ناحية التبديد أو من ناحية استردادها من قبل الزوجة، وعادة ما تصدر أحكام في مثل هذه القضايا بالحبس لمدة سنة أو أكثر، أو بالحبس وإيقاف التنفيذ وعدم براءة ذمة المتهم وهو "الزوج" بشكل كامل.
ومن خلال هذا التعريف المختصر الذي يعني أن قائمة المنقولات مثل "إيصال الأمانة" وجب على الزوج –نظرياً- رد كل ما كُتب في هذه "القايمة"، ولكن من الناحية الواقعية فإن قائمة المنقولات تُستخدم بالفعل طوال مدة الزواج، ومن ثم فإنها تتعرض للتلف والإبادة مع مرور الزمن، ويصبح ردها أو ما يقابلها مادياً عبئاً لا يستطيعه معظم الرجال الذين إما أنهم يتعرضون للسجن أو الهرب والتخفي!
ولهذا السبب، ولصعوبات اقتصادية كبرى يواجهها هذا الجيل من الشباب، أصبحت القايمة –بالنسبة لقطاع كبير منهم– فخاً يهدد مستقبل الزواج نفسه من قبل أن يبدأ، فالأزواج الرجال لا يريدون السجن أو الملاحقة بعد الطلاق، بالإضافة إلى خسارة أموالهم وأمتعتهم التي اشتروها بعد معاناة وتعب وديون في بعض الأحيان، أما الزوجات فيُردن ضمانة مالية تعوضهن عن سنوات الزواج، وتكون عوناً لهن بعد الطلاق، ورداً لحقوقهن التي أقرها الأزواج عند بداية الزواج، بل إن المغالاة في كتابة القايمة سببه الاجتماعي الأول أن تكون رادعاً للزوج عن الإقدام إلى الطلاق خوفاً من تكاليفه الباهظة.
وبسبب هذا السجال بين الفريقين آثرنا أن نعود إلى تاريخ وجود "قائمة المنقولات الزوجية" في مصر، فثمة فريق من الباحثين الأثريين يقول إن أقدم وثيقة لقائمة منقولات في مصر، كتبت باللغة العبرانية ضمن وثائق الجنيزا اليهودية، وقد كُتبت بين اليهود الذين سكنوا القاهرة في العصر الفاطمي وهي تعود لعام 1160م، وهي تشبه قائمة المنقولات المتعارف عليها بين المصريين في يومنا هذا.
وفي ذلك العصر تزوج المسلمون أيضاً من اليهوديات بكل يُسر في ظل الحرية المطلقة في تعدد الزوجات والتسري واتخاذ الجواري آنذاك، وقد تأثرت الأسر المصرية المسلمة بهذه الحيلة التي اخترعها اليهود لتقييد مسألة تعدد الزوجات، ولكي يصبح الزوج نفسه مكلفاً عند الطلاق برد هذه الأمانة.
لكن بعض الفقهاء يقولون ربما تعود قائمة المنقولات الزوجية إلى فقه المالكية في المشهور من مذهبهم بإلزام الزوجة بالتجهيز من صداقها (مهرها)، وتُعرف عندهم باسم "الشورة"، إذ للزوج أن يتمتع ويستخدم ما أحضرته الزوجة وأنه لا يلزمه بدلها، وحتى اليوم تُستخدم كلمة "الشوار" في الدلالة على جهاز العروسة أو ما أحضرته الزوجة إلى بيت زوجها عند إتمام عقد الزواج.
وقد ذكر الحطاب الرعيني المالكي (ت 954هـ) أن للزوج التمتع بشُورة زوجته التي من مهرها إن لزمها التجهيز به وإلا فلا، وقد نقل الحطاب عمن سبقوه من علماء المالكية من "أن هذا الحكم جارٍ على المشهور أن المرأة يلزمها التجهيز بصداقها". كما ذكر في كتابه "مواهب الجليل شرح مختصر خليل".
لكننا نجد أيضاً أن المالكية متفقون مع غيرهم من فقهاء المذاهب الأخرى أن الشورة أو التجهيز لعفش الزوجية لا يكون إلا على عاتق الزوج؛ وإنه إن تزوجها من أهل الحضر وجب عليه أن "يجهزها جهاز وسط (متوسط) من جهاز الحاضرة (أهل الحضر)". وكذا إن تزوجها من أهل البدو فعليه تجهيز "المِثل". وهكذا أقر الفقهاء في أغلبهم أن التجهيز والصداق يكون على الزوج كاملاً، وللزوجة رد حقوقها المالية كالصداق المؤخر عند الطلاق.
ورغم سهولة الزواج والطلاق في المنظومة الشرعية والاجتماعية في تلك العصور، فإن مؤرخاً مثل يوسف رابوبورت، يؤكد في كتابه "الزواج والمال والطلاق في المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى"، أن الطلاق من جانب واحد لم يكن أمراً شائع الحدوث كما قد يتوقع المرء، فمعظم الأزواج تم ردعهم أولاً وقبل كل شيء من خلال التكاليف المالية المرهقة المترتبة على الطلاق؛ إذ قدّر الأزواج عاقبة ما قد يترتب على الطلاق من جانب واحد مِن دفع جميع التزاماتهم المالية المعلّقة من طرف زوجاتهم، بما في ذلك الأجزاء المتأخرة المقسَّطة، والمستحقة الحالة من الصداق "المهر"، بالإضافة إلى المتأخرات في مدفوعات النفقة والكسوة وسائر الديون الأخرى التي قد يُدان الزوج بها خلال الزواج، والتي كانت تُكتب بتفاصيلها في عقد الزواج.
وكان بوسع المطلقات اللجوء إلى القُضاة الأحناف دون غيرهم؛ لأنهم دعّموا مطالب المطلقات بالنفقة عليهن خلال فترة عدّتهن، كما طُلب من الأزواج طلب دفع التعويض المسمى "نفقة المتعة" لمطلقاتهم على رأس تلك المدفوعات، وبسبب هذه الشروط ذات التبعية المالية الكبيرة والمكبّلة للزوج، لاحظ ابن تيمية (ت 728هـ) أن نسبة سجن الأزواج ارتفعت في زمنه بسبب عدم إيفاء الأزواج بالشروط التي فُرضت عليهم من قبل الزوجة أو وليّها عند كتابة عقد الزواج، فنراه يقول: "ومن حين سُلّط النساءُ على المطالبة بالصدقات المؤخّرة، وحبس الأزواج عليها حدث من الشرور والفساد ما الله به عليم".
لقد لاحظ ابن تيمية أن تكبيل الزوج بصداق أو مهر كبير في عقد الزواج الذي يكون بمثابة المؤخّر لها؛ كان له أبعاد أخلاقية واجتماعية خطيرة أخرى تتعدى مسألة "الحقوق" المالية للزوجة، لقد رأى ابن تيمية أن المبالغة في المهور التي يتبقى قسم كبير منها على سبيل المؤخر سبب في تمرد النساء، أو كما يقول: "وصارت المرأة إذا أحسّت من زوجها بصيانتها في البيت، ومنعها من البروز والخروج من منزله والذهاب حيث شاءت، تدّعي بصداقها (تقيم دعوى قانونية أمام القاضي للمطالبة بمهرها المؤخر)، وتحبس الزوج عليه، وتنطلق حيث شاءت، فيبيتُ الزوج، ويظلّ يتلوّى في الحبس، وتبيتُ المرأة فيما تبيتُ فيه".
لكن إذا كرهت المرأة الاستمرار في الزوجية، وتَعنَّتَ الزوج في تطليقها كان لها خيار آخر وهو الخلع، وبمقتضى الخلع في سياقه الإسلامي كان على المرأة أن تتنازل عن كل حقوقها المالية من مؤخر الصداق ونفقة العدة وأيضاً نفقة المتعة، فضلاً عن أي شروط مالية أخرى كانت قد سُجلت في عقد الزواج، وكان للزوج –عند طلب زوجته الخلع– أن يسترد أطفاله، بل وأن تلتزم المرأة بالمشاركة في النفقة عليهم إن وافقت طالبة الخلع على هذه الشروط، وتسقط حضانتها للأطفال كاملة إذا تزوجت غيره وهذا الشرط الأخير تشريع إسلامي عمل به قضاة الإسلام طويلاً.
ولقد رجعتُ إلى العديد من الدراسات الوثائقية التي تتناول عقود الزواج والطلاق في العصرين المملوكي والعثماني في مصر والشام، وقد لاحظتُ أن "الشروط" التي كانت الزوجة تحرص على كتابتها وذكرها في عقود الزواج هي بمثابة الضامن المالي لها عند الطلاق، وتقوم مقام قائمة الزوجية "القايمة" في زمننا هذا، فما يفرضه الشرع على الزوج عند التقدم للزواج أن يُقدم المهر أو الصداق للزوجة، لقول الله تعالى في سورة النساء: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا). أي إنكم أيها الرجال ملزمون بإعطاء النساء مهورهن وصدقاتهن ديناً مفروضة، وهو ما عبَّرت عنه الآية بلفظة "نِحلة".
وعلى هذا كانت عقود الزواج تنص على تقسيم المهور أو الصداق بين المقدّم/المعجّل والمؤخر، فالمقدم تتسلمه المرأة أو وليها مالاً في اليد، بعضهن كن يشترين كسوتهن ومتاع الزوجية منه، وبعضهن لم يفعل، والجزء المتبقي من الصداق "المؤخّر" تتسلمه المرأة عند الطلاق، أو تتنازل عنه "إبراء" للزوج، وغالبا ما كان الطرفان يتفقان على كافة هذه التفاصيل قبل الطلاق الرسمي أمام القاضي الذي كانت مهمته التصديق على تلك العقود وكتابتها وحفظها في المحاكم الشرعية.
على أن الحداثة قد غيرت كثيراً من هذه الممارسات لا سيما في مصر، فإذا كانت عقود الزواج وشروطها بما فيها قيمة المهر مقدماً ومؤخراً كانت هي الضمانة التي تسمح للمرأة بالمطالبة بحقها وحق أطفالها عند التقاضي، وتمنع بصورة عملية سهولة الطلاق لتكاليفه المالية المرتفعة والمكتوبة في العقد "صداقاً"؛ فإن العُرف في مصر قد أضاف إلى ذلك أن يوقع الرجل –بعيداً عن عقد الزواج- على قائمة المنقولات الزوجية (القايمة) باعتبارها حقاً أصيلا للمرأة عند الطلاق، وأنه سيتعرض للسجن إذا ثبت تبديد أو ضياع هذه المنقولات!
وذلك فضلاً عن حقوقها الأخرى الشرعية مثل نفقة العدة والمتعة ونفقة الأطفال، والقانونية مثل الحق في حضانة الأولاد وإن تزوجت المرأة، وكذلك أخذ شقة الزوجية، وهذان الأمران الأخيران لم يحكم بهما قُضاة الشرع كحق للمرأة في تاريخ هذه الممارسة القانونية.
وبسبب هذه التقييدات القانونية الإلزامية التي صار الرجل مطالباً بها عند الطلاق في هذا الزمن، وخسارته الفادحة لماله وبيته وجزء كبير، بل معظم راتبه، الذي يذهب إلى النفقة بأنواعها أصبحت الأصوات تخرج بين الحين والآخر مطالبة برفع هذه الأعباء عن كاهل الرجل المطلق، فضلاً عن تحذير الشباب المقدمين على الزواج من عدم اعتبار قائمة الزوجية أمانة وجب ردّها؛ والعودة إلى النظام الإسلامي القديم بتحمل الرجل إيجار أو شراء شقة الزوجية وتجهيزها بقدر استطاعته، وبحسب العُرف السائد، والالتزام فقط بالصداق الذي يتم تحديده بين طرفي الزواج، فهل سيتم تغيير عرف "القايمة" في مصر والعودة إلى النظام الشرعي القديم؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.