الشيخ الكامل محمد الهادي بن عيسى المغربي هو أبو الطريقة العيساوية الروحي، ومؤسس ما يسمى الجذبة العيساوية التي تشتهر بإنشاد أفرادها لمختلف قصائد المدائح النبوية على إيقاعات مميزة باستخدام البندير والدف وأبواق النفير. إن الحديث عن الطريقة العيساوية يجرنا إلى التعمق في تاريخ التصوف المغربي وتأثيره الاجتماعي، ذلك لأن الطريقة العيساوية المكناسية قد خلفت أثراً واضحاً على الروحانية في المجتمع المغربي.
تحضر الجذبة العيساوية في الأعراس والمناسبات المغربية في مختلف مدن المملكة، إذ إن الطريقة العيساوية قد تعدت حدود مدينة مكناس وذاع صيتها في مدن عريقة أخرى من قبيل فاس والرباط.
يتغنى أتباع هذه الطريقة بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، طالبين العفو من الله والشفاعة من رسوله، وتنطلق أصواتهم كما لو كانت صوت رجل واحد في تناغم خيالي روحاني لتصل أسماع الحاضرين المنتشين بالأنغام والأصوات الشجية. قبل سنوات قليلة كانت الطريقة العيساوية حكراً على الرجال، واليوم باتت الأصوات النسائية هي الأكثر شهرة في المغرب وأصبحت حاضرة في مناسبات الختان وحفلات الزفاف والاحتفالات السنوية بعاشوراء وذكرى المولد النبوي.
تتم المناداة على الأولياء الصالحين وقدماء الشيوخ ورواد الطريقة في مواسم زيارات الأضرحة وتشهد جموعاً غفيرة على تلك المشاهد الاستثنائية، بل وتمتزج مع الأهازيج والألحان لتصبح جزءاً من لوحة تشكيلية فريدة من نوعها.
وإذا كان الملحون الأندلسي يعتبر فناً نخبوياً نوعاً ما في المجتمع المغربي المعاصر، فإن عدداً كبيراً من المغاربة يجدون نشوة لا نظير لها في استماعهم للجذبة العيساوية كما الحضرة الشفشاونية في المواسم وزيارات قبور الأولياء الصالحين. يحيلنا المدح العيساوي إلى إحساس بالتجرد من كل الأمور الدنيوية ويحمل المستمعين إلى عوالم أخرى؛ حيث يناجون فيها خالقهم ويرتفعون عن الأحاسيس الاعتيادية إلى مقام الشعور بالحضور الإلهي في أوساط المديح والذكر. ولأن المديح النبوي جزء لا يتجزأ من التراث والإرث الحضاري المغربي، فإن هذا اللون الفني الإسلامي لا يزال يحتفى اليوم به في المحافل الدولية والمهرجانات العالمية للتراث الصوفي.
أما الرقصات التي يقوم بها أتباع الطريقة العيساوية فهي في حد ذاتها أشعار بكل اللغات، تتناسق والكلمات التي ينطق بها أصحابها فإذا بها تصعد لتقابل الخالق كما يصعد الدعاء للواحد الأحد، وتلهج ألسنتهم بدعاء واستغفار. ما هي إلا دقائق قليلة على انطلاق تلك الأهازيج حتى تسري رعشة في جموع السامعين وهم يرددون اسم الله جماعة ويميلون بأجسادهم كل حين.
التأويل الشرعي لبعض ممارسات الطريقة العيساوية
إن المتصوف هو الشخص الذي يزهد في الدنيا وملذاتها تقرباً من الله عز وجل، وهذا الزهد هو أمر محبب في الإسلام وسنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن تَبِعَ طرائقه وسنته من الصالحين، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان زاهداً في محاسن الدنيا، طامعاً في رحمة الله عز وجل. هذا وإن التصوف مرغوب فيه في ديننا الحنيف، وقد أثنى الله تعالى على من لا يجعلون الحياة الدنيا أكبر همهم، إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ ٱلْغَرُورُ}، زيادة على قوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ ٱلْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِي ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} .
ثم إن السنة النبوية تزخر بالتوجيهات التي تحث المسلم على تطهير القلوب من الحب المفرط للدنيا والتشبث بها على حساب الحياة الآخرة والمثوى الأخير، فعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قَالَ: أَخَذ رسولُ اللَّه ﷺ بِمَنْكِبِي فقال: {كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ}.
لكن بعض الطقوس التي يبتغى منها الاتصال بالعالم الروحاني واللامرئي تدخل أحياناً في إطار الشرك بالله تعالى؛ إذ ينادى فيها على الأموات من الأولياء الصالحين، فإذا كانت العبادة أمراً لا يبتغى به سوى الله عز وجل، فإن في الذبح على اسم غير اسم الله وتقديم القربان إلى غيره وطلب الشفاعة منهم شركاً عظيماً وتعدياً على حرمات الله عز وجل. لهذا فإن كل الممارسات البدعية التي تفضي إلى الشرك بالله فهي محرمة شرعاً.تعددت أصناف التراث الإسلامي في المغرب وأشكال الاحتفالات بالعقيدة الإسلامية والقرب من الذات الإلهية، لكن الناس اجتمعوا على حب هذه التقاليد على اختلافها وتنوعها، ذلك لأن هذه الطرق الصوفية تعكس تشبث المجتمع المغربي ببعده الإسلامي وبتقاليد التصوف التي توحي باعتدال التدين المغربي وسلامته من كل شوائب الفكر المتطرف والمتعصب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.