دعني أوضح لك الموقف بدقة، أنت الآن تجاوزت الثلاثين أو على وشك ذلك، ربما تخطيتها بعدة أعوام.. تزوجت ولديك ولد أو اثنان، تعمل محاسباً أو مهندساً في إحدى شركات القطاع الخاص، أو ربما طبيباً تحاول جاهداً أن تفتح العيادة الخاصة بك لتقلل من عدد المستشفيات الخاصة التي تتناوب عليها.
ولو كنت محظوظاً فربما تستكمل ما بدأه والدك من عمل خاص، أو قد تكون موظفاً حكومياً تسعى جاهداً للبحث عن فرصة أخرى لتحسن من معيشتك.. لن ننتهي يا صاحبي!
القاسم المشترك بين كل ما سبق هو أنك تكافح وتسعى بكل طاقتك، لم تحظَ بالاستقرار بعد، ولا تلوح له ملامح في الأفق القريب، لست قادراً على أن تضع خطة لـ5 أعوام على الأقل، بل قل لعام واحد فقط، حقيقة لا تدري ما يخبئ لك الغد ولا بأي أرض تكون! مسؤولياتك وهمومك كصخرة عملاقة على منحدر يزداد حجمه مع الوقت ككرة الثلج، ولكنها لا تنحدر من أعلى، وإنما تدفعها أنت من أسفل، مجبراً على رفعها غير قادر على التوقف ولا التراجع إلى الخلف، وإلا انهار كل شيء.
يبدو أنك ستتوقف عن القراءة، أسمعك تقول إن الحياة كئيبة وقاسية، ولسنا في حاجة إلى زيادة مرارتها بمثل هذا الحديث، معك كل الحق يا صديقي ولكن ما أحاول طرحه هنا هو نوع من الفضفضة، لا أقدم حلولاً، فلا تنتظر إجابات، هي مجرد كلمات قد تجد صدى لديك وتعزيك بأنك لست وحدك في هذا، فتجد بعض السلوى.
نعود لأصل حديثنا لو قررت أن تكمل القراءة، أنت الأن بلغت منتصف الرحلة، ربما كنت تتخيل عند بلوغك هذا السن أنك ستصل إلى مرحلة من الاستقرار الوظيفي وتحصد ثمار النجاح عن فترة التعب السابقة، وتسعى نحو مزيد من الاستقرار والتطوير في مجالك، تحظى بحياة أسرية هادئة، تعود إلى أسرتك آخر اليوم، تنفض غبار يومك وتنعم بساعات من الهدوء مع أطفالك، مستلقياً على الأريكة غير قلق من الغد، ربما تدخر بعض الأموال لشراء سيارة أو التجهيز لعطلة صيفية طويلة، تفاضل بين المدارس التي سيلتحق بها أطفالك… لو لم تتزوج بعد فأنت تحرز تقدماً كبيراً في عملك العام أو الخاص.. المحصلة أنك سعيد وراضٍ عن نفسك وأسلوب حياتك، لا تطرح كثيراً من الأسئلة التي لا إجابات لها، ولا تلقي بالاً للغد.. هذا ما كنت تظنه عن حياتك بعد بلوغك الثلاثين!!
ولكن الواقع يا عزيزي مختلف قليلاً؛ ما زلت تفكر في تغيير مجال عملك لعدم شعورك بالراحة فيه، وربما غيرته مرة أو مرتين بالفعل منذ تخرجك، تضيق ذرعاً بمديرك، والراتب لا يواكب معدلات التضخم المتزايدة، ربما تنتقل من شركة إلى أخرى. ولو كنت موظفاً حكومياً، فربما تحظى ببعض الاستقرار ولكن العائد قليل جداً، فضلاً عن الروتين والملل وتوقف طموحك الوظيفي، يضيع يومك عالقاً في ازدحام المواصلات، لو كنت محظوظاً فربما لديك سيارة مستعملة تدور بها على الورش الميكانيكية أكثر مما تدور عجلاتها على الطرقات، وتعود آخر اليوم من عملك منهكاً لتجد أسرتك بانتظارك على الغداء أو للدقة قل العشاء، تجلس قليلاً وتسامرهم، تداعب طفلك الصغير وتنغلق عيناك تلقائياً في العاشرة، تحاول جاهداً البقاء مستيقظاً لقضاء أطول وقت ممكن مع العائلة، ولكن هيهات. تستيقظ صباحاً للعمل – المواصلات – البيت – طفلك يضحك لك – عمل – نوم – يوم الثلاثاء – مشاجرة في مصلحة حكومية – زيارة للمشفى بطفل مريض – أخيراً يوم العطلة – نزهة بسيطة – مقابلة الأهل والأصدقاء – كثير من العمل – المدير يتذمر – مواصلات… وهكذا.
ربما تكون قد تجاوزت الثلاثين ولم تتزوج بعد،اختلفت الأسباب، ربما أنت مقلع عن الفكرة لأسبابك المقنعة التي لا أختلف معك عليها إطلاقاً، ولكن في لحظة ما يراودك الحنين، وما أكثره بعد الثلاثين، لتكوين أسرة وإنجاب أطفال. ثم تحدثك نفسك بأنه من الحماقة القدوم على هذه الخطوة وسط هذا العبث، فضلاً عن إنجاب أطفال لعالم مجنون في أوطان بائسة، وهكذا تتنازعك الأفكار، ربما ليس هذا الأمر هو عقبتك، قد تكون تكلفة الزواج الباهظة أو انغماسك في عملك أو بحثك الدؤوب عمن تناسبك، من الممكن أن تكون هاجرت إلى بلد ما أو مغترب من أجل العمل والزواج خارج أولوياتك في الفترة الراهنة! ولكن على كل حال أعتقد أنك مرتاح قليلاً لفكرة ابتعادك عن مسؤولية تكوين أسرة، ولكنك في حالة ترقب دائم للخطوة القادمة. المجهول الذي حدثك عنه الكثير بالسلب والإيجاب، وحان وقت التجربة العملية، وعليك الاستعداد إليه نفسياً ومادياً.
لقد تجاوزنا يا صديقي مرحلة العشرينيات، الفترة التي تحدثك نفسك فيها بأنك مازلت في عنفوان شبابك، وعندك القدرة على اتخاذ القرارات بسهولة، فتصيب مرة وتخطئ مرات، وأنت قادر على تحمل التبعات البسيطة!
لن تتأثر حياتك كثيراً لو قررت ترك عملك من أجل مزيد من الدراسة والبحث عن فرصة أفضل، أو تغيير مكان عملك كلياً، ولن يتوقف الكوكب عن الدوران لو قررت أن تغامر بكل مدخراتك في شراء سيارة مستعملة أو المغامرة في مشروع ناشئ.
ولكن بعد الثلاثين، تشعر، كما أخبروك، بأنك نضجت وعليك اتخاذ القرارات الصائبة، والصائبة فقط! التي ترسم مستقبلك ومستقبل من حولك، يبدو أنه لم يعد هناك متسع من الوقت والطاقة لمزيد من القرارات الفجائية الطائشة، هكذا أخبرونا وإن كنت أختلف معهم كثيراً، فقد اختلف الزمان وتغيرت المعطيات.
أنت تسعى بكل جهدك لتعديل أوضاعك، ربما تفكر في السفر للعمل بحثاً عن بيئة أفضل، وقطعاً من أجل المال، حينها عليك التفكير جيداً في نقطة الزوجة والأولاد، فضلاً عن البعد عن الأهل، لو قررت البقاء فتصبح فريسة لوظائف غير مجدية في المجمل، وعليك أن تتحول إلى آلة تعمل ليل نهار. تراودك أحلام الهجرة؛ خيار جيد ولكنه بعيد المنال، ويتطلب مجهوداً شاقاً، ولو بحثت في الأمر قليلاً فبالتأكيد ستصادف أحاديث من هاجروا عن العنصرية والتمييز، ناهيك عن التغريب الذي يتعرض له الأولاد في سن التنشئة، ويفكر الأهل جدياً للانتقال إلى دول عربية، وغالباً ما يكون الخليج خيارهم الأول، ولكن الحال اختلف في الخليج أيضاً، ولم يعد كما كان، التوطين يجري على قدم وساق، وهذا حقهم تماماً، وكذلك زادت تعقيدات وتكلفة المعيشة كثيراً عن السابق، وبعد مدة من الزمن لن يبقى للكثيرين موضع لقدم إلا بشق الأنفس.
أنت ربان السفينة ولا تدري أين الوجهة، قلما قد يجيبك كهل ثلاثيني عن خطته المستقبلية الواضحة، أو أين يتوقع أن يكون بعد 3 سنوات، أنت في مهب الريح، تتقاذفك الأمواج، تستخدم كل مهاراتك محاولاً السيطرة على الدفة، وبعدها تحدد وجهتك، ومن ثم تقود سفينتك في هذا المسار.
في الختام يا صديقي؛ دعني أخبرك أن الأمور أبسط من ذلك بكثير، وعبورك حاجز الثلاثين لا يعني شيئاً على الإطلاق، وقد لاحظت أن كثيراً من الأصدقاء وممن نتشارك معهم خطوط الحياة أقدموا على مغامرات كبرى بعد الثلاثين والأربعين.. يكفي أن تعلم أن رسولنا الكريم تلقى الوحي لأول مرة وبدأ نشر رسالته في سن الأربعين.
أوقن أن الأجيال القادمة ستكسر هيمنة وهيبة المراحل العمرية، ولن تعتد كثيراً بحواجز الزمان والمكان نظراً لطبيعة وظروف الحياة. وأخيراً أذكر نفسي وإياك يا صديقي بأنه لا داعي للقلق كثيراً والاستغراق في التفكير في المستقبل.
علينا فقط الاستعداد الجيد، وأن نستمتع بالمتاح، فـ"من أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمناً في سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حيزت له الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِها". مصداقاً لقول رسولنا الكريم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.