عرف عمر، رضي الله عنه، أن الشورى لن تكون بين الستة فقط، وإنما ستكون في أخذ رأي الناس في المدينة، فيمن يتولى الخلافة، حيث جعل لهم أمداً ثلاثة أيام، فيمكنهم من المشاورة والمناظرة لتقع ولاية من يتولى بعده عن اتفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده التي هي دار الهجرة، وبها معظم الصحابة، وكل من كان ساكناً في بلد غيرها كان تبعاً لهم فيما يتفقون عليه، فما زالت المدينة حتى سنة (23هـ) مجمع الصحابة فيها، حيث استبقاهم عمر بجانبه، ولم يأذن لهم بالهجرة إلى الأقاليم المفتوحة.
اجتماع الرهط:
لم يكد يفرغ الناس من دفن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حتى أسرع رهط الشورى وأعضاء مجلس الدولة الأعلى إلى الاجتماع في بيت عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وقيل: إنهم اجتمعوا في بيت فاطمة بنت قيس الفهرية أخت الضحاك بن قيس، ليقضوا في أعظم قضية عرضت في حياة المسلمين، بعد وفاة عمر. وقد تكلم القوم، وبسطوا آراءهم، واهتدوا بتوفيق الله إلى كلمة سواء رضيها الخاصة والكافة من المسلمين.
عبد الرحمن يدعو إلى التنازل:
عندما اجتمع أهل الشورى قال لهم عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: جعلت أمري إلى علي، وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، وأصبح المرشحون الثلاثة علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام؛ لينظرن أفضلهم في نفسه. فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن بن عوف: أفتجعلونه إليَّ، ولله علي أن لا آلو عن أفضلكما؟! قالا: نعم.
تفويض ابن عوف لإدارة الشورى:
بدأ عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، اتصالاته ومشاوراته فور انتهاء اجتماع المرشحين الستة صباح يوم الأحد، واستمرت مشاوراته واتصالاته ثلاثة أيام كاملة، حتى فجر يوم الأربعاء الرابع من محرم، وهو موعد انتهاء المهلة التي حددها لهم عمر، وبدأ عبد الرحمن بعلي بن أبي طالب فقال له: إن لم أبايعك فأشر عليّ، فمن ترشح للخلافة؟ قال علي: عثمان بن عفان، وذهب عبد الرحمن إلى عثمان وقال له: إن لم أبايعك فمن ترشح للخلافة؟ فقال عثمان: علي بن أبي طالب. وذهب ابن عوف بعد ذلك إلى الصحابة الآخرين، واستشارهم، وكان يشاور كل من يلقاه في المدينة من كبار الصحابة وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد، ومن يأتي للمدينة، وشملت مشاوراته النساء في خدورهن، وقد أبدين رأيهن، كما شملت الصبيان والعبيد في المدينة، وكانت مشاورات عبد الرحمن بن عوف أن معظم المسلمين كانوا يشيرون لعثمان بن عفان، ومنهم من كان يشير لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي منتصف الأربعاء ذهب عبد الرحمن بن عوف إلى ابن أخته المسور بن مخرمة، وطرق البيت، فوجد المسور نائماً، فضرب الباب حتى استيقظ، فقال: أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكثير نوم، فادع الزبير وسعداً، فدعوتهما له، فشاورهما، ثم دعاني فقال: ادع لي علياً، فدعوته، فناجاه حتى ابهار الليل. ثم قام علي من عنده. ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته فناجاه حتى فرغ بينهما المؤذن للصبح.
الاتفاق على بيعة عثمان:
وبعد صلاة صبح يوم البيعة، اليوم الأخير في شهر ذي الحجة 23هـ/ 644م، وكان صهيب الرومي الإمام، إذ أخبر عبد الرحمن بن عوف وقد اعتمَّ بالعمامة التي عمّه بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان قد اجتمع رجال الشورى عند المنبر، أرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد منهم معاوية أمير الشام، وعمر بن سعد أمير حمص، وعمر بن العاص أمير مصر، وأوفوا تلك الحجة عن عمر وصاحبه إلى المدينة.
وجاء في رواية البخاري: فلما صلى للناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى كل من حضر من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن، ثم قال: أما بعد، يا علي، إني قد نظرت في أمر الله، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلني على نفسك سبيلاً، فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون. وجاء في رواية صاحب (التمهيد والبيان): أن علي بن أبي طالب أول من بايع بعد عبد الرحمن بن عوف.
حكمة عبد الرحمن بن عوف في تنفيذ خطة الشورى:
نفذ عبد الرحمن بن عوف خطة الشورى بما دل على شرف عقله، ونبل نفسه، وإيثاره مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصة ونفعه الفردي، وترك عن طواعية ورضا أعظم منصب يطمح إليه الإنسان ليجمع كلمة المسلمين، وحقق أول مظهر من مظاهر الشورى المنظمة في اختيار من يجلس على عرش الخلافة، ويسوس أمور المسلمين، فهو قد اصطنع من الأناة والصبر والحزم وحسن التدبير ما كفل له النجاح في أداء مهمته العظمى، وقد كانت الخطوات التي اتخذها كالآتي:
– بسط برنامجه في أول جلسة عقدها مجلس الشورى في دائرة الزمن الذي حدده لهم عمر، وبذلك أمكنه أن يحمل جميع أعضاء مجلس الشورى على أن يُدلوا برأيهم، فعرف مذهب كل واحد منهم ومرماه، فسار في طريقه على بينة من أمره.
– وخلع نفسه، وتنازل عن حقه في الخلافة ليدفع الظنون، ويتمسك بعروة الثقة الوثقى.
– أخذ في تعريف نهاية ما يصبو إليه كل واحد من أصحابه وشركائه في الشورى، فلم يزل يقلب وجوه الرأي معهم حتى انتهى إلى شبه انتخاب جزئي، فاز فيه عثمان برأي سعد بن أبي وقاص، ورأي الزبير بن العوام، فلاحت إليه أغلبية آراء الحاضرين معه.
– عمد إلى معرفة كل واحد من الإمامين: عثمان وعلي في صاحبه بالنسبة لوزنه في سائر الرهط الذين رشحهم عمر، فعرف من كل واحد منهما أنه لا يعد صاحبه أحداً إذا فاته الأمر.
– أخذ في التعريف على رأي من هم وراء مجلس الشورى من خاصة الأمة وذوي رأيها، ثم من عامتها وضعفائها، فرأى أن معظم الناس لا يعدلون أحداً بعثمان، فبايع له، وبايعه عامة الناس.
لقد تمكن عبد الرحمن بن عوف بكياسته وأمانته واستقامته ونسيانه نفسه بالتخلي عن الطمع في الخلافة، والزهد بأعلى منصب في الدولة، أن يجتار هذه المحنة، وقاد ركب الشورى بمهارة وتجرد، ما يستحق أعظم التقدير.
قال الذهبي: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جميع الأمة على عثمان ولو كان محابياً فيها لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمه، وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص.
وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في عهد الخلفاء الراشدين، وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشورى، ليعينوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامة، ثم البيعة العامة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.