ما نوع الإسلام المطبَّق في تركيا؟ ولماذا يمكن أن يصبح نموذجاً تحتذي به باقي الدول المسلمة؟ هذا سؤال في صميم الموضوع، وأنا مدرك لذلك.
لكن، لا توجد دائماً علاقة ضرورية بين صحة الاعتقاد ونجاح تطبيقه. فقد لا يكون الفهم الحقيقي للإسلام ممكناً دائماً لإقناع الجماهير، وقد لا تكون الجماهير منفتحة على الاستماع إلى رسالة حقيقية وفقاً لظروفهم الاجتماعية، وقد يكونون منغلقين على أنفسهم.
الاعتقاد الصحيح له مد وجذر يتناسب مع الظروف الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، يزداد انفتاح الناس على الدين في أوقات الشدة والضيق، أما في أوقات الوفرة والرخاء، فنجد أن الملذات والمصالح الدنيوية تبعد الناس عن الدين. ويمكنكم تطبيق هذا على جميع الكيانات الاجتماعية، وسيظهر توزيع مختلف تماماً، ولكن بشرط ألا يؤخذ على أنه العامل الوحيد بالطبع.
لذلك، نجد أنه في الصراع بين التدين والعلمانية، لا يوجد خط تطور خطي لصالح أي منهما. وهذه النتيجة هي إحدى الحقائق الأكثر شهرة في تاريخ الأنبياء، إذ إن العديد من الأنبياء لم يتمكنوا حتى من تأسيس مجتمع من المؤمنين خلال نضالهم الذي استمر لسنوات عديدة، بل حتى قرون.
وبالمناسبة، تتمثل إحدى طرق صنع القومية باسم تركيا من خلال الدين في تجميل نموذج افتراضي يسمى "الإسلام التركي".
فما هو الإسلام التركي؟ ما هو تعريفه؟ وما هو مضمونه؟
من يتحدثون كثيراً عن هذا الموضوع لا يبتعدون كثيراً عن اختراع دين جديد اليوم، والعكس غير ممكن. ولا تختلف مثل هذه النمذجة عن عمليات بناء الأمة. وجميع عمليات البناء، هي بمثابة اختراع جديد مع كتابة قليل من التاريخ، والإثنولوجيا، والذاتية، وإعجاب بالنفس، وتمجيد للذات، ودعاية ذاتية.
والمشكلة تكمن في أن أولئك الذين يفعلون ذلك ينشغلون بما يفعلونه لدرجة أنهم يعتقدون أن ما اخترعوه في أذهانهم حقيقي. وليس من السهل إيقاظهم من بيئة النوم التي خلقوها بأوهامهم الخاصة، ومن المُحَتَّم أنهم سيصدرون ردود أفعال مفرطة وغير عقلانية تجاه من يريدون إيقاظهم.
وبعد هذا التنويه الطبيعي، دعونا نضِف ما يلي: إذا كانت الحياة الإسلامية في تركيا لها امتياز مقارنة بالحياة الإسلامية في الدول الإسلامية الأخرى، فلا يرجع ذلك إلى تفوق هذا التفهم الإسلامي أو ذاك على التفاهمات الإسلامية الأخرى، كما هو مفترض. بل على العكس من ذلك، ينبع هذا الامتياز، من حقيقة أن جميع التفاهمات الدينية قد وجدت طريقة للتعايش مع بعضها البعض في التاريخ، وبعبارة أوضح، من حدوث تجربة طويلة وعميقة الجذور للتعددية الدينية.
وهذا هو سر النظام الاجتماعي العثماني الذي استمر طويلاً حتى بمقاييس ابن خلدون: الحياة الدينية والعرقية التعددية التي تحققت برعاية الدولة وضماناتها.
دعونا ننحّ جانباً الوجود الآمن للأديان الأخرى في بيئة التعددية الدينية هذه، وتنوع المسلمين فيما بينهم ما بين أتباع قاضي زاده لي، والسيواسي، والبكتاشي، والشيعة، والسنة، والحنفية، والشافعية، والدرزية، والسلفية، والصوفية، والنقشبندية، والقادرية… إلخ.
لقد عاشوا جميعاً في جو من الحرية مع الآخرين في هذه البيئة التعددية، وتحاوروا مع الآخرين، وطوروا من أنفسهم خلال تحاورهم مع بعضهم البعض. وبالمناسبة، هذا البلد الذي نتحدث عنه لم يكن محصوراً في حدود الميثاق الوطني. نحن نتحدث عن فكر الأمة العليا، التي حكمت من الإمبراطورية العثمانية، تنوع الجغرافيا الإسلامية بأكملها من الهند إلى شمال إفريقيا والبلقان.
ومنذ أن انقطع هذا الفكر مع إعلان الجمهورية، استمرت قابليتنا للاحتكارنا الديني في شتى الأمور. وإذا كان هناك أي شيء يمنح الأمل للعالم اليوم، حتى باسم التجربة الإسلامية، فهو ليس سوى إحياء لما تبقى من هذا النموذج المُنقطع. وإلا فلن يظهر نموذج للعالم الإسلامي أو العالم بأسره، طالما أننا لم نتخلص من فهمنا الاحتكاري للدين، الذي تشكل في البداية بوصفه علمانية بديلة للدين في العهد الجمهوري، وانتشر إلى كل جماعة وطريقة دينية، مع التوسعات اللاحقة.
وفي الحقيقة، فإن ما يجعل تركيا أملاً اليوم، هو قابليتها على التخلص من هذا الفهم الاحتكاري، وامتلاكها أفقاً وسعة تمكناها من احتضان الأمة بـأكملها.
وبالمناسبة، عندما يتم النظر إلى بعض تجارب اليوم بشكل سطحي، فإنه يُعتقد أن التعددية الدينية ستجلب إحساساً خطيراً بالنسبية والابتعاد عن الدين. بيد أن العديد من الدراسات تُظهر أنه في الأماكن التي يتم فيها تجربة التعددية الدينية حقاً، لا يفقد الناس إحساسهم بالحقيقة، بل يكتسبونها بقوة أكبر ويتمسكون بها بشكل أفضل.
وعلى العكس من ذلك أيضاً، في الأماكن التي يوجد فيها نوع من الاحتكار الديني، لا يتمسك الناس بالدين أكثر، وقد تصبح الجماهير أكثر ابتعاداً عن الدين بسبب الانحطاط الحتمي لتسلسل السلطة الذي نتج عن ذلك الاحتكار. ولهذا السبب، يمكن النظر إلى مدى ارتفاع مستوى العلمنة في الأماكن التي لا يوجد فيها فهم تعددي للدين. وعلاوة على ذلك، تحدث العلمنة على الرغم من الوجود المؤسسي للدين ومظاهره المسيطرة في الظاهر. ويحدث هذا الاتجاه بنفس الطريقة في أوروبا والعالم الإسلامي.
ولذلك، فإنه في بيئة التعددية الدينية، حيث يدافع كل فرد عن مزاعم الحقيقة الخاصة به بقدر ما يريد، يتعين على المنظمات الدينية أيضاً إثبات جودتها وفقاً لظروف بيئة المنافسة الحرة. وعندما تراعي الدولة الشروط التي تضمن هذه التعددية، وعندما تلعب دور المُحكم بدلاً من أن تكون طرفاً في المنافسة بين الأديان أو الآراء الدينية، يصبح من الممكن أكثر للأديان أن تطور نفسها من خلال المناقشات الداخلية.
ويكشف كتاب رودني ستارك وروجر فينك الشهير، "أعمال الإيمان" (Acts of Faith) هذه الاتجاهات جيداً من خلال مقاربة الاقتصاد الديني التي تشرح تنافس الحركات الدينية من خلال نوع من نموذج السوق الاقتصادي. وأهم أطروحة في الكتاب، هي ارتفاع المستوى العام للانتماء الديني كلما كانت الجماعات الدينية خارجة عن السيطرة ومتنافسة فيما بينها. وعلى النقيض من ذلك، لا يرى الدين السائد في البيئة التي يكون فيها فهم احتكاري للدين، أي حاجة لبذل أي جهد لرفع جودته، حيث يتم قمع كل من المنافسة، والمناقشات الحرة، والفكر، وبذلك يفقد قوته الإقناعية ويؤدي إلى حالة من الجمود لدى الجمهور؛ لأنه يستمد نفوذاً يشوه سلطة الدولة أو ظروف السوق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.