كنت في المرحلة الإعدادية، عندما جلست في منزلي القديم بإحدى المناطق الشعبية في محافظة الجيزة، أتحدث مع ثلاثة من جاراتي حول أغانينا المفضلة، فإذا بواحدة منهن تخبرني أن أغنيتها المفضلة "صياد الطيور" لجورج وسوف.
بدى ذوقها غريباً لي، فنجوم الأغنية بتلك المرحلة هم عمرو دياب ومحمد محيي، وأصالة، وشيرين، لذا كان اختيارها غير متوقع، لكنها أصرَّت على أن نسمع الأغنية معاً.
هرعت إلى شقتها لتحضر "شريط كاسيت"، وبدأ صوت جورج وسوف في الخلفية يهدر: "يا صياد الطيور يا خالي صباعك عن زناد الموت.. أنا عصفور ضعيف الحال، ولا أكفيش لعيالك قوت.. أنا العصفور وليف الخضرة والمية، أنا المولود على كفوف الجناينية".
انتبهت وقتها لعالم جورج وسوف، في هذا التوقيت كانت أغنيته "اتأخرت كتير" قد صدرت لتوها، فرحت أستمع لهذا الصوت الذي لطالما سمعته، لكن هذه المرة بأذن جديدة، كأنني أكتشفه لأول مرة، فهمت لحظتها لماذا يدعونه بـ"سلطان الطرب"، شكلت تلك الأغنية بالذات مدخلاً مختصراً لجيلي-الجديد وقتها- إلى عالم أبو وديع، الذي اكتشفت لاحقاً أنني لم أكن وحدي المعجبة به.
المقاومة على طريقة جورج وسوف
طفل قاوم عائلته لأجل شغفه، ثم قاوم الاتجاهات السائدة، لاحقاً صار يقاوم كل شيء تقريباً، هكذا لم يستسلم حين رفضته عائلة حبيبته، وزوجته الأولى، شاليمار، فقرر أنه لن يستسلم، وقام خلال الحرب الأهلية في لبنان بالاستعانة بمسلحين، حيث ذهب إلى أسفل منزلها وهددها أنه سيتزوجها رغماً عنها، وقام بإطلاق النار في الهواء، ليتزوجها لاحقاً في باريس على ثلاث مراحل، في زواج مدني، وزواج في الكنيسة، وزواج إسلامي في المحكمة.
مقاومة جورج وسوف دفعته حين استحكمت الخلافات بينه وبين زوجته الأولى شاليمار في توقيت مرضه وإصابته بـ"الجلطة" عام 2011، حيث ظل لثلاث سنوات بعيداً عن الوسط الفني، في محاولة للتعافي، حتى انتهى به الحال أخيراً في مستشفى سبيتار في قطر، هناك قابل بطلة الراليات القطرية، والموظفة بالمستشفى، حيث وقعا في الحب؛ ليتزوجها بالرغم من حالته الصحية، ويحقق حلمه الأثير بإنجاب "بنت".
وهو ما حدث بالفعل، حيث أكدت ندى أنه من أقنعها بالإنجاب للبحث عن بداية جديدة، قاوم لإيجادها، وبالرغم من عدم استمرارها، فإنها كانت بمثابة تأكيد جديد له أنه يستطيع تخطي المرض والحزن والوحدة أيضاً.
صحيح أن زواجه ظل سرياً حتى أعلنت عنه ندى نفسها، إلا أنه لم ينفه، وعند وقوع الطلاق بسبب "أطراف خارجية" ظل يذكر ابنته باعتبارها "عيون وسوف" قولاً وفعلاً، واستمرت مقاومته للوعكة، حيث أثبت أنه بخير حقاً حين ظهر مع رامز جلال لاحقاً في واحد من المقالب المزعجة.
رأيت المعنى الحقيقي للمقاومة حين ظهر جورج وسوف في مارس الماضي على كرسي متحرك، حيث بدا منهكاً جداً، ثم عادة ليظهر لاحقاً في موسم جدة، حيث قاوم ليقف على قدميه ويغني وإن توكأ على عكاز، وتحدى ليطرب جمهوره، بالرغم من كل شيء، عقب الصورة الأولى بثلاثة أشهر فقط.
مسلسل سيرة ذاتية "ركيك"!
قبل عدة أشهر، شاهدت البرومو الخاص بمسلسل السيرة الذاتية "مسيرتي"، من إنتاج منصة "شاهد"، تحمست لمشاهدة قصة حياة جورج وسوف، والتي يرويها بنفسها، لكنني، وما إن بدأ المسلسل، حتى بدأت أشعر أن ثمة خطأ.
في البداية تدور الأحداث داخل منزل يشبه المدارس الأجنبية، يفترض أنه لأسرة متواضعة الحال، هكذا رأى المخرج أنه من الطبيعي أن تمتلك تلك الأسرة الريفية طاولة طعام داخل المطبخ، وفناء خلفي عامر بالورد، وأباجورات طويلة وباهظة زينت المشاهد جميعها، هكذا تسبب الديكور منذ اللحظة الأولى في صدمتي، لتبدأ سلسلة مشاهد إن أغلقت الصوت، فسوف تعتقد أنك تشاهد فيلماً أجنبياً.
هكذا وضعت أملي في التمثيل لتطالني خيبة الأمل أيضاً، فبالرغم من إعجاب وسوف بأبطال عمله ووصفه بأنهم يشبهونه كثيراً، فإنني وجدت صعوبة شديدة في الاقتناع بالطفل سليم حايك، لا يمكن أن يكون وسوف بهذا القدر من البراءة والسذاجة في طفولته، كما أنني لم أقتنع لحظة، رغم موهبة عامر فياض به، فيما شكل أداء فريد توفيق فشلاً محققاً، ليس هذا الطفل الذي رأيت وجهه وتعبيراته في مقاطع الفيديو القديمة، ما هذه الباروكة المفتعلة!
لم أتوقف عن المشاهدة إلا حين وصلت إلى الأحداث الرئيسية، والتي يظهر خلالها وسوف طفلاً مميزاً، قائدا بين أصحابه، متفوق في المدرسة، طليق اللسان مع أبويه، ينعم بحياة هادئة هانئة لطفل بسيط، لم يكن هذا صحيحاً بالمرة، فوسوف هو نفسه الذي وصف طفولته بـ"القاسية" العامرة بـ"الشقى والتعتير"، هكذا يظهر في أكثر صور طفولته "مدخناً"، وهو ما أكده بنفسه لاحقاً حين أكد: "أنا ما عشت طفولتي مثل ما لازم عيشها".
ربما لهذا ظل يفتقد طفولته منذ اللحظة التي انطلق فيها، وأعلن "أنا مسافر يا أمي"، من قريته الريفية كفرون بسوريا، بدأ عمله، وبواسطة شريط كاسيت تم تسجيله له دون أن يدري!
انتشر الصغير "كبرت براسي أغني وأخرج من المدرسة" هكذا راح يطارد حلمه خلف مطربيه المفضلين وديع الصافي وأم كلثوم، ربما أجمل ما في السيرة هي طريقته، وربما جملته التي استوقفتني: "45 سنة مسيرة طويلة حلوة ومرة، لكن الحلو فيها أكتر من المر".
من الملاهي الليلية إلى الفنادق واصل الصغير عمله، حتى وصل إلى المرحلة التي يروي فيها سيرته الذاتية بنفسه، ليذكر ما يريد ويستبعد ما يريد، فمثلاً لم يذكر سلطان الطرب شيئاً في "مسيرتي" عن زيجته الثانية سوى ابنته "عيون"، التي قال عنها "عيون جورج وسوف وعيون الوساسيف جميعاً".
المخدرات والقمار في حياة جورج
ظلت شائعات تعاطي جورج للمخدرات رائجة لفترة طويلة، حتى أعلنت شرطة ستكهولم الأحد 2 نوفمبر عام 2008 توقيف سلطان الطرب لحيازته مخدرات قبل إحيائه حفلاً موسيقياً في عاصمة السويد، عثرت الشرطة بحيازته على 30 جراماً من الكوكايين، لكن المحكمة أفرجت عنه لاحقاً، فيما ظلت الشرطة تعتبره "مشتبهاً به".
"كنت نايم ولاقيت حالي هناك، ما بعرف ليه؟" ثلاث أيام في الحجز، نفى بعدها التهم المنسوبة إليه، وتساءل ما الهدف من إظهاري مذنباً، لكن هذا لم يمنعه من العودة إلى هناك مرة أخرى عقب عامين لإحياء مزيد من الحفلات، في محاولة لنفي الأمر عنه.
لكن وسوف قرر في النهاية أن يعترف بشجاعة عبر سيرته الذاتي التي رواها بنفسه قائلاً، ووجه في كلمته التي ختم بها الوثائقي، دعوة صادقة إلى الشباب للابتعاد عن المخدرات والقمار (الميسر) وقال صراحة: "أنا مرقت فيهن، نتيجة هذه الأمور بشعة ووسخة".
رجل لا تحتمل وضوحه!
من الصعب أن تجد رجلاً واضحاً جداً، لا مجال لديه للمواربة، أو المساحات الرمادية، يدفع ثمن مواقفه كاملة، ويعلنها دون ذرة شعور بالذنب، هكذا الأمر مع جورج وسوف، الرجل الذي سبق أن أصدر أحكامه على كل شيء يتعلق به ليتخذ مواقف واضحة جداً.
هكذا سب نيشان فورا حين سأله إن كان يريد أن يصبح يوماً "عضو لجنة تحكيم" بواحدة من تلك البرامج قائلاً: "قليل الأدب إنت" ليعلن موقفه بصراحة من برامج المواهب "إكس فاكتور"، و"آراب أيدولز"، و"هيك بنغني"، وغيرها، مؤكداً: "ما في برنامج طلع منه نجم، باستثناء ستديو الفن، هذه البرامج تجارية، في بطيخ، المحكمين عاوزين حكم، يطربون للأغاني الأجنبية، إذا بيحكموني، بسقط حالي".
موقفه من الخط الأجنبي في الطرب الشرقي بدأ مبكراً، منذ البدايات، حيث أعرب صراحة: "نغني عربي، ويجب أن نحتفظ بشيء الاتجاه للتيار الغربي مرض، 90 % ألحان غربية انقرضت الألحان الشرقية، شيء مؤسف".
وضوحه الشديد دفعه أيضاً للهجوم على أصالة بسبب موقفها من النظام السوري، حيث قال: "أصالة اسم على غير مسمى، فاجرة وفاكرة نفسها الله خلقها وكسر القلة!، وهي خانت البلد بلادها، من أيام حافظ الأسد، الله يرحم أبوكي، كل واحد بيدفع تمن أعماله".
لكن أصالة ردت: "كان صديق مقرب لبابا، وله مواقف كثيرة لطيفة من طفولتي، كان بيحبني حب كبير، وبعد هذا الفيديو طلب يصالحني وقبلت الصلح، في أشخاص ما تقدر تزعل منهم، أتمناله يهتم بحاله وصحته، من أهم الفنانين، وعنده أهم أغاني في التاريخ الحديث".
داعم مستميت لبشار ونصر الله
من بين كل الفنانين الغاضبين في وجه بشر وحده وقلة آخرين بقي جورج وسوف داعماً باستماته للنظام السوري، وعلى رأسه بشار الأسد، هكذا وبمجرد تعافيه من وعكته الصحية عام 2014 سارع إلى زيارة بشار الأسد في القصر الرئاسي، بصحبة نجله وديع، وهي زيارة تكررت لاحقاً فيما لم يفوت أي مناسبة للتأكيد على ولائه الكامل والتام لبشار، واصفاً إياه بالطيب واللطيف، حتى أنه صار يغرد للدفاع عن الشائعات التي تطال بشار.
من بين المواقف التي دفع الوسوف ثمنها، موقفه الداعم للأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله: "السيد حسن أشرف وأنبل إنسان، راسم صورته على صخرة وضعته عندي"، حيث أثارت ظلت تلك الجملة التي لم يتبرأ منها أبداً مفتاح الهجوم الدائم عليه، خاصة من جانب السعوديين.
سر الوشوم على جسده
يعد "الخذلان" شعوراً رئيسياً في حياة "وسوف"، يقول: "الوفي بهاالأيام بيحكي مع حاله مثل المجنون، أقرب المقربين خذلوني"، منذ إصابته بجلطة عام 2011: "لم يبق من أصدقائي سوى واحد أبو إبراهيم"، وقتها تعجب أبو وديع من غياب من وصفهم بـ"أقرب الناس"، حيث لا مكالمة ولا رسالة ولا وردة، بسببك تلك الوعكة بالذات قرر وسوف أن يدق وشوم على جسده باسم اثنين بالذات ممن صاحبوه في رحلة العلاج، زوزو براجاد، ذلك الشاب الذي يتحدث العربية بصعوبة، والذي اصطحبه في رحلته إلى السويد لعام كامل، وكذلك اسم الطبيب الروسي "فلاديمير" الذي صاحبه في رحلته أيضاً.
ما هي ديانته الحقيقية
اسمه جورج وسوف، إذاً هو مسيحي، لكن مهلاً، هذا ليس صحيحاً، لن تجد على موقع المعلومات الشهير "ويكيبيديا" ذكراً لديانته، عكس كل النجوم، نفى جورج أن يكون مسيحياً، حيث أكد بشكل واضح "لست مسيحياً، ولكنني أحفظ الترانيم المسيحية، وأؤذن وأحفظ أسماء الله الحسنى وأؤديها في شكل ابتهال، كما أن زوجتيَّ مسلمتين.. لا يفرق في الدين.. الدين المعاملة".
يميل البعض للتأكيد على أن وسوف مسلماً، مستشهدين بمقطع فيديو له يبدو فيه كأنه ينطق الشهادتين، خاصة عقب تصريحاته مع نيشان.
هكذا عاد للجذور
قليلون هم من يعتزون باسم الابن الأكبر، يعتز الكثيرون بالإلقاء، لكنه من القلة الذين يميلون للقب "أبو وديع" أكثر من "سلطان الطرب، أو حتى اسمه جورج وسوف، حتى اللحظات الأخيرة يحتفي أبو وديع بعائلته، يفرد حلقتين لزوجته الأولى ووالدة أبنائه الثلاثة شاليمار، موضحا دورها وحبه الكبير لها، ويظهر في برنامج خلال عيد الفطر الماضي بصحبة شقيقاته الأربعة، حيث أكدت شقيقته الكبرى سوسن: "روحنا وسندنا كلنا، هي غير كل الأخوة، من وقت خلق حاسس نفسه مسؤول عنا" في مقابلة خلال عيد الفطر الماضي، كما ظل قريباً من والديه حتى وفاة والده قبل ست سنوات، ووفاة والدته قبل عامين اثنين فقط، ليلازم "كفرون" منذ رحيلها، حيث لم يتمكن من تركها.
يصف شقيقاته بالصلاح ثم يتوقف ليتساءل: "ما بعرف إن كنت صالح ولا شو؟"، لا يزال عاجزاً عن استيعاب رحيل والديه: "رغم أن الوقت يُنسي الحزن، لكن فقدان الأهل "غالي كتير" حتى اليوم لا أصدق أن والدتي قد رحلت".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.