صبيحة يوم الثلاثاء الماضي، الموافق 12 يوليو/تموز الجاري، استيقظت دول الاتحاد الأوروبي على أنباء مزعجة تفيد بتراجع عملتها أمام الدولار الأمريكي إلى أقل مستوى منذ عام 2002. تراجعت قيمة اليورو إلى ما دون الدولار الواحد، قبل أن يستعيد بعضاً من عافيته ويرتفع بأكثر من 1% إلى ما فوق 1.23 دولار نهاية يوم الثلاثاء.
أتى ذلك التراجع العنيف وسط مخاوف الأوروبيين من تبعات الحرب الروسية – الأوكرانية، والشك حول استمرار تدفق الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي الداعمة لأوكرانيا.
إطلالة تاريخية
في يناير 1999، اعتمدت 11 دولة عضو بالاتحاد الأوروبي (من أصل 15) اليورو عملة رسمية، بدأ الاعتماد على اليورو بشكل إلكتروني كعملة تسوية رقمية، ثم تم اعتمادها بالأسواق الأوروبية وتمت طباعتها ورقياً وصناعتها معدنياً في يناير/كانون الثاني من عام 2022.
بدأ اليورو رحلته بالأسواق العالمية وسعر صرفه 1.15 دولار أمريكي، وبلغت قوة اليورو مداها في عام 2008 عند مستوى 1.6 دولار، واستمر اليورو في استعراض قوته أمام باقي العملات بثباته النسبي، إلى أن وقع الهبوط في يوليو/تموز الجاري، الذي جعل اليورو بأقل من دولار أمريكي.
يُعدّ اليورو اليوم من أهم العملات المتداولة على المستوى العالمي، فهو العملة الرسمية لنحو 340 مليون شخص في 19 دولة من دول الاتحاد الأوروبي.
في هذا المقال، نستعرض أسباب وتداعيات تراجع العملة الأوروبية الموحدة، والتحديات التي قد تزيد من حدة الأزمة الاقتصادية في دول الاتحاد الأوروبي إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه عسكرياً في أوكرانيا واقتصادياً في بلدان اليورو.
أسباب انهيار اليورو
- الفيدرالي الأمريكي
المتهم الأول في قضية انخفاض سعر صرف اليورو أمام الدولار الأمريكي هو البنك الفيدرالي الأمريكي.. لماذا؟
لأنه في الـ15 من يونيو/حزيران المنصرم رفع البنك الفيدرالي الأمريكي الفائدة بنسبة 0.75%، لتكون المرة الثالثة هذا العام التي يرفع فيها سعر الفائدة، مع التعهد بمواصلة ذلك لكبح جماح موجة التضخم الأعنف التي تضرب الأسواق الأمريكية منذ 41 عاماً، بينما يحافظ البنك المركزي الأوروبي -حتى الآن – على سياسته النقدية "الفضفاضة" القاضية بعدم التدخل في سعر صرف العملة، أي عدم رفع الفائدة، حتى الآن.
قرارات الفيدرالي الأمريكي جعلت من الدولار عملة أكثر جاذبية للمستثمرين من اليورو، فتزايد الطلب عليه في الأسواق العالمية، وسارعت رؤوس الأموال في التدفق إلى الولايات المتحدة لأن العوائد أعلى بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، وبالتالي تم تحويل اليوروهات إلى دولارات، وهذا هو سبب ارتفاع قيمة الدولار وانخفاض اليورو.
في هذا الصدد، يرى الدكتور مصطفى شاهين، أستاذ الاقتصاد بجامعة أوكلاند الأمريكية، أن سبب عدم قيام البنك المركزي الأوروبي إلى الآن برفع سعر الفائدة كما قام بها نظيره الأمريكي، أن تلك الخطوة قد تؤدي إلى حدوث ركود وكساد اقتصادي في دول الاتحاد الأوروبي. ولكن، في الوقت نفسه، يقع الاتحاد الأوروبي تحت ضغط التضخم وارتفاع الأسعار على المستهلك الأوروبي، مما يعني أنه سيضطر إلى رفع سعر الفائدة في القريب العاجل، كما يشير تقرير وكالة "بلومبيرغ".
ولقد تسارعت معدلات التضخم الثانوي في دول اليورو، وسجل مستوى قياسياً جديداً عند 8.6% في يونيو الماضي، وهو أعلى مستوى في تاريخ المنطقة التي تستخدم العملة الموحدة، ويُعد أعلى بكثير من المعدل المستهدف من البنك المركزي الأوروبي، 2%.
هذا الارتفاع القياسي للتضخم يضع البنك المركزي الأوروبي في مأزق؛ فمن ناحية يجب عليه التدخل وكبح مستويات التضخم باتخاذ قرارات لحماية العملة ورفع سعر الفائدة، ومن ناحية أخرى، فإن رفع سعر الفائدة سيؤدي إلى انكماش الاقتصاد، وقد يعني الدخول في حالة ركود.
- الحرب الروسية-الأوكرانية
بحسب الكثير من الخبراء والمراقبين، فإن الحرب الروسية-الأوكرانية، وما سببته من ارتفاع حاد في أسعار الطاقة والمحروقات، لعبت دوراً رئيسياً في التراجع القياسي لليورو مقابل الدولار، خاصة في ظل الانكماش الاقتصادي وارتفاع نسبة التضخم في منطقة اليورو إلى أكثر من 5% مع بداية العام الحالي، وهي أعلى نسبة تضخم تشهدها القارة الأوروبية منذ 30 عاماً، بحسب آخر الأرقام التي نشرها مكتب "يورو ستات" للإحصائيات التابع للمفوضية الأوروبية.
وأدت حزمة العقوبات الاقتصادية الضخمة التي فرضتها دول الاتحاد الأوروبي على روسيا إلى هذا الانكماش في الاقتصاد الأوروبي، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الطاقة وأزمة إمدادات الغاز من روسيا التي تسهم بـ40% من احتياجات أوروبا من الغاز، وتزداد المخاوف من أن تقوم روسيا بوقف هذه الإمدادات، وهو أمر من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار فواتير الكهرباء ويجبر دول منطقة اليورو على الحد من بعض الأنشطة الصناعية.
كل هذه المخاطر والاضطرابات تضغط على قيمة اليورو، ويبدو أن مصير اليورو يعتمد أكثر من أي وقت مضى، على نوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وما إذا كان سيسعى إلى تصعيد الحرب الاقتصادية مع أوروبا.
- قوة الدولار الأمريكي
كان الدولار الأمريكي ولا يزال العملة المهيمنة والأقوى أمام كل العملات الرئيسية الأخرى، وعلى رأسها اليورو، ناهيك عن وضعها كعملة للاحتياطي العالمي، لذا استفادت العملة الخضراء استفادت من رفع البنك الفيدرالي الفائدة بأعلى وتيرة منذ ثلاثة عقود.
يرجح بعض الخبراء أن ضعف سعر صرف اليورو ليس ناتجاً عن ضعف منطقة اليورو أو الحرب فقط، وإنما هناك أيضاً قوة الدولار وتزايد الطلب عليه في الأسواق العالمية، وهذا ما يدفعه لهذا الصعود الكبير، حيث إن أغلب أسعار الطاقة في السوق العالمية مسعّرة بالدولار، وبالتالي فإن ارتفاع أسعار الطاقة يؤدي بالضرورة إلى زيادة الطلب على الدولار، ونتيجة إلى كل ذلك أصبح الدولار ملاذاً آمناً للاستثمار في وقت الأزمات وزاد الطلب عليه، في الوقت الذي قل فيه الطلب على اليورو.
المركزي الأوروبي يرفع سعر الفائدة
أعلن البنك المركزي الأوروبي يوم الإثنين، أنه سيرفع معدلات الفائدة، الخميس المقبل بمقدار نصف نقطة، لأول مرّة منذ أكثر من عقد، حيث يواجه ضغوطاً لاتخاذ مزيد من الخطوات، في ظل بلوغ التضخم مستويات قياسية على نقطة أساس في يوم الخميس 21 يوليو/تموز، في خطوة غير مسبوقة منذ عام 2011، أتت للتخفيف من حدة التضخم وارتفاع الأسعار على المستهلك الأوروبي.
ويأمل المركزي الأوروبي في أن تزيد هذه الخطوة من الإقبال على الاستثمار في سندات اليورو، وهو ما سيجعل سعر صرف العملة يواصل الارتفاع مجدداً أمام الدولار وسيساهم في خفض الأسعار داخل منطقة اليورو.
ورغم التغيير الهيكلي الذي حدث في سياسة البنك المركزي الأوروبي بإعلان هذا القرار، فإن تأثير الرفع قد يكون محدوداً على العملة الموحدة، وسط قلق من حدوث أزمة ديون في ظل ارتفاع تكاليف الاقتراض. ويناضل المركزي الأوروبي للحفاظ على تكافؤ سعر الصرف وكبح جماح التضخم ومواجهة الركود الاقتصادي المحتمل، بالإضافة إلى الكثير من التحديات التي تشكل علامة فارقة في مصير العملة الموحدة.
ويعتزم المركزي الأوروبي إصدار رفع آخر في سعر الفائدة على اليورو بـ75 نقطة (0.75%) في سبتمبر/أيلول القادم، في محاولة لمجاراة البنك الفيدرالي الأمريكي وباقي البنوك المركزية في العالم التي تواصل اتباع سياسة نقدية حازمة برفع سعر الفائدة لمحاربة أكبر موجة تضخم يشهدها العالم منذ ما يقرب من نصف قرن.
ويرى الخبراء في وكالة "بلومبرغ" أن اليورو سيستمر خلال الأشهر القليلة المقبلة في تراجعه والبقاء في مرحلة التكافؤ مع الدولار، ولكن من المتوقع أنه سيتخطى هذه المرحلة بحلول نهاية العام، ويفترض أن تدعم احتمالات تراجع التضخم والرسائل الأكثر توازناً من المصارف المركزية عودة الرغبة بالمخاطرة وتخفيف الطلب على الدولار الأمريكي مع اقتراب بلوغ المعدلات الرسمية ذروتها الدورية.
وأنه في حال تم ذلك، فسيكون بإمكان اليورو تجاوز مرحلة التكافؤ في الأشهر الأخيرة من عام 2022.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.