تحتكر باكستان صناعة كرات القدم في العالم، حيث يخرج من مصانعها 70% من الكرات التي يتمرن ويلعب بها المحترفون والهواة في معظم دول العالم.
وتتمركز صناعة الكرات في مدينة "سيالكوت"، التي تقع بشمال منطقة البنجاب، ويسكنها حوالي 736 ألف نسمة، بحسب آخر إحصاء جرى في مطلع العام الجاري 2022.
ويشتغل 60 ألفاً من سكان المدينة في 1000 مصنع مخصص لصناعة كرات القدم، ينتجون أكثر من 100 كرة في الساعة الواحدة، بمعدل 6 كرات لعامل واحد في اليوم الواحد، يتقاضى بفضلها 300 سنتيم يومياً، أي حوالي 1000 يورو سنوياً فقط… أقل من 85 يورو شهرياً!
ولعلك عزيزي القارئ قد تتساءل الآن عن الأسباب أو العوامل التي جعلت باكستان تحتكر السوق العالمية لكرات الرياضة الأكثر شعبية في المعمورة.
البداية كانت في سنة 1886
لا يوجد أي مرجع تاريخي يؤكد سنة شروع باكستان في صناعة كرة القدم، وسبب تمركز صناعتها بمدينة "سيالكوت"، لكن توجد رواية شفوية أو "أسطورة" تقول إنّ البداية كانت في سنة 1886، وذلك بحسب ما ذكره موقع "wion" الهندي، يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
لكن قبل الحديث عن هذه الرواية يجب التذكير بأنّ باكستان في تلك الفترة كانت جزءاً من بلاد الهند الخاضعة للاستعمار البريطاني، قبل أن تستقل يوم 14 أغسطس/آب 1947، ثم استقلت الهند بعدها بيوم واحد.
كان المستعمرون البريطانيون مُولعِين بلعب كرة القدم، وكانوا يقلقون كثيراً عند تأخر وصول الكرات من بريطانيا إلى الهند عبر البحر، ولذلك، وبحسب "الأسطورة"، فإنّ عسكرياً بريطانياً برتبة رقيب ملَّ من الانتظار، فطلب في سنة 1886 من سرّاج بمدينة سيالكوت ترقيع كرته، فأعجب بمهارته، فقدم له طلبية بصنع مجموعة من الكرات.
وتتوقف الحكاية هنا، أي بداية صناعة كرات القدم بباكستان، ولكن القصة لم تنتهِ، فقد كسبت مدينة سيالكوت شهرة وسمعة طيبة في إجادة صناعة الكرات منذ أواخر القرن التاسع عشر، فاستغلت بريطانيا الأمر لاستيراد تلك البضاعة بكثرة، بحكم أنّ رياضة كرة القدم قد بدأت في الانتشار بشكل واسع لدى الإنجليز، خاصة مع إطلاق أول دوري إنجليزي في موسم 1888-1889.
كما لجأت بريطانيا فيما بعد لإنشاء الكثير من الورش لصناعة الكرات بالهند، ليس تلك الخاصة برياضة كرة القدم فقط، بل أيضاً للرياضات الأخرى، كالكرة الطائرة والبيسبول، وقد كان التركيز أكثر على مدينة سيالكوت، التي أصبحت مع مرور الوقت منطقة صناعية متخصصة في اللوازم الرياضية.
خياطتها باليد وسعرها الزهيد أكسباها سمعة عالمية
كانت صناعة الكرات تتم في البداية بخياطتها باليد وباستعمال الجلد الطبيعي الرفيع، وقد استمر الحال على ذلك بعد استقلال باكستان عن الهند وعن بريطانيا في العام 1947، ما أكسب كرات القدم القادمة من سيالكوت سمعة عالمية، لجودتها وأيضاً لسعرها غير المرتفع، مقارنة بتلك المصنّعة بأوروبا أو أمريكا أو دول صناعية أخرى.
ويعود السبب الرئيسي في الثمن الزهيد للكرات التي كانت تأتي من باكستان لليد العاملة الرخيصة، إذ كان العامل البسيط يقتنع بالأجر القليل الذي كان يتلقاه في عهد الاستعمار البريطاني، وبقي كذلك بعد الاستقلال.
كما تحول العنصر المُكون للعمال مع مرور السنوات، إذ كان الأمر مقتصراً على الرجال في البداية، ثم شيئاً فشيئاً تم اللجوء إلى الأطفال والنساء، إلى أن أصبح في الوقت الحالي يتشكل في غالبيته من النساء.
كما سبقت الإشارة فإنّ الكرات القادمة من سيالكوت كسبت مع الوقت شهرة عالمية واسعة لجودتها، إلى درجة افتكاك باكستان أو بالأصح شركة "أديداس" المتعددة الجنسيات لمدينة سيالكوت لعقد في سنة 1982، من طرف الاتحاد الدولي لكرة القدم، لصناعة كرة القدم الخاصة بنهائيات كأس العالم التي جرت في صيف العام نفسه بإسبانيا.
تجربة مونديال إسبانيا 1982 أحدثت ثورة في نوعية الإنتاج
أطلق على تلك الكرة الخاصة بمونديال 1982 اسم "تانغو إسبانا" وهي نسخة مطورة من الكرة التي استعملت في مونديال 1978 بالأرجنتين، وسميت بـ"تانغو ديرلاست".
وصُنعت كرة "تانغو إسبانا" بالجلد الطبيعي مع تغليفه وخياطته لأول مرة بـ"المطاط"، قصد منع الماء من التسرب إلى الداخل، لتكون بذلك أول كرة قدم مقاومة لتسرب المياه.
ولكن خلال المباريات التي استعملت فيها "تانغو إسبانا" كان يتم تغييرها عدة مرات، بسبب تلف الغلاف المطاطي، لكثرة تعرّضها للركل من طرف اللاعبين، فكانت بذلك آخر نوع من كرات القدم التي تُصنع بالجلد الطبيعي.
وعلى إثر تجربة مونديال إسبانيا 1982 قررت باكستان من خلال مختلف شركات اللوازم الرياضية العالمية، كـ"أديداس" و"نايك" صناعة كرات قدم بالجلد الصناعي، وبدون خياطتها، وذلك بلصق قطعها بواسطة الحرارة.
وهي الكرات التي باتت تتحمل ركلات اللاعبين وتحافظ على شكلها الأصلي، ما جعل الاتحاد الدولي لكرة القدم يمنح باكستان عقود صناعة كرات نهائيات مونديالي 2014 بالبرازيل و2018 بروسيا.
وقد نجحت باكستان في تصدير 38 مليون كرة قدم قبل نهائيات مونديال روسيا 2018، جنت من خلالها 154 مليون دولار، أي بزيادة عن إيرادات السنة المالية التي سبقتها، والتي كانت بـ152.549 مليون دولار، في فترة يوليو/تموز 2016- يونيو/حزيران 2017، ولكن بقيمة أقل من تلك التي عرفتها فترة يوليو/تموز 2015- يونيو/حزيران 2016، والتي كانت تقدر بـ172.901 مليون دولار، وفقاً لأرقام المكتب الباكستاني للإحصائيات، ونقلها موقع "ديسباتش نيوز" الباكستاني.
ظاهرة عمالة الأطفال
بسبب الفقر الذي كانت ولا تزال تعيشه الكثير من العائلات الباكستانية، وبسبب جشع بعض أصحاب الورش المُصنعة لكرات القدم فإنه كان يتم اللجوء لاستغلال الأطفال للعمل في هذا المجال، قبل أن يتم القضاء على الظاهرة، في العشرية الأخيرة.
فخلال فترة عمل تصل إلى 12 ساعة يومياً، وفي وضعية جلوس على الأرض داخل ورشة قليلة الإضاءة، كان المئات من أطفال سيالكوت يعانون لصنع الكرات من أجل مقابل مالي زهيد جداً، ما جعل بعض الجمعيات الاجتماعية المحلية، بداية من تسعينيات القرن الماضي، تتحرك للفت أنظار العالم لهذه الظاهرة غير الإنسانية.
وقد تم القضاء تدريجياً على هذه الظاهرة، بفضل تهديدات منظمة العمل الدولية، وتحرك منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، والاتحاد الدولي لكرة القدم، وشركة "أديداس"، الذين قاموا بتمويل بعض المشاريع التنموية بمدينة سيالكوت لتحفيز العائلات على عدم إرسال أطفالها للعمل، وذلك ببناء المدارس، ومنح التلاميذ الفقراء كل لوازم الدراسة واللباس، وبناء ملاعب رياضية، وإقامة دورات لكرة القدم خاصة بالأطفال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.