أعدِم ماكسيميليان روبسبيير سريعاً عقب الإطاحة به بما لم يخول أن يترك أثراً يعود فيه على فترة استبداده بالسلطة ووجهة نظره في ما اتخذ من قرارات، ومدى تأثير الأحداث والمحيطين به فيها. جعله الساسة الفاعلون وقتها كبش فداء تلك المرحلة من الثورة الفرنسية وألبسوه كل ما فيها من باطل.
أما راهناً فهناك بحوث ودراسات جرت وتجري عنه وعن زمنه في محاولات للخروج بنظرة أقرب إلى الموضوعية. لكن هنا سأعتمد ما هو متداولٌ في الإشارة فقط ودون تحليل وتعمق إلى نقاط تشابه بينه وبين سعيّد، إجابةً عن سؤال من صديق عن سبب وصفي فترة استبداد قيس سعيّد بالحكم في شهورها الأولى بـ "روبسبيارية بيضاء".
روبسبيير وسعيد من أهل القانون، الأول محام والثاني أستاذ قانون دستوري، كلاهما انتصر للطبقة الدنيا وصعد بها، رغم أنهما من الطبقة الوسطى، بشريحة أعلى لروبسببير نالت صنفاً من النبل زمن الملكية. يتصفان بنظافة اليد والثبات إلى حدٍّ ما على المبادئ، وقدر كبير من الإعجاب بالنفس.
يذهب غوستاف لوبون في كتابه "روح الثورات والثورة الفرنسية" إلى أن روبسبيير كان يعتقد "أن الله أرسله ليوطد دعائم الفضيلة، وأنه هو المسيح الذي أرسله الله لإصلاح كل شيء"، فيما يرى سعيد أنه المنتصر للشعب ومصحح مسار الثورة ومنقذها ممن حادوا بها وخانوها.
يتشابه الرجلان أيضاً في عهد حكمهما بعدم تفعيل روبسبيير لدستور جاهز، وقيام سعيد على مراحل بإيقاف العمل بدستور 2014 مع ادعاء التحرك ضمنه في البداية قصد إكساء فعله شرعية يفتقدها. وقد اعتمد كلاهما التدابير الاستثنائية، لتتوقف تجربة روسبيير القصيرة عندها فيما يتجهز سعيد لتمرير دستوره مُضمِراً اكتساب الشرعية من خلال الاستفتاء عليه.
عمد روبسبيير في عهده إلى توسيع صلاحيات لجان الرقابة (أو اليقظة) وإطلاق يدها، إذ مكونها الطبقة الدنيا (السانكيلوت)، ويعمد سعيد لتمكين أنصاره وتنسيقياته متخذاً هذه الطبقة سنداً. وقد ذهب كلاهما إلى تحديد الأسعار في إجراء سياسي، لا اقتصادي، لصالح الطبقة الدنيا. الأول نجح، والثاني عجز بدرجة كبيرة عن ذلك في زمن غير الزمن، لاعتبارات عدة منها ارتباط شطط الأسعار بغلاء مواد أولية مستوردة، رغم تمكنه من الحفاظ على أسعار الأعلاف والدواجن ومشتقاتها متدنية مقارنة بارتفاعها الملحوظ في الخارج جراء وباء كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا.
ومن المثير للسخرية في هذا الوضع الدقيق أن مناصري سعيد اعتمدوا هزلاً تسمية جديدة للشهور في الفترة الأولى للانقلاب منطلقها يوم استبداد سعيد بالسلطة وتجميد البرلمان (مجمد الأول، مجمد الثاني)، فيما أقرت الثورة الفرنسية لفترة أسماء شهورٍ جديدة لمخالفة أشهر الكنيسة التي تعاديها.
لقد سادت في زمن الأول وتسود زمن الثاني عبارات التخوين والإقصاء، فمن ليس مع روبسبيير كما من يعارض سعيد يصنف عند الجماهير خائناً، والفارق في غياب محكمة الثورة والمقصلة عن زمن الثاني. يجمع الرجلين ازدراء باقي الطبقة السياسية، لكن الاختلاف يكمن في أن الأول أرهبها باعتماد محاكم الثورة والمقاصل الموجودة قبل تمكنه من السلطة، فأمعن في استخدامها وأراق دماءً كثيرة عقب محاكمات صاخبة أقرب إلى الشكلية ليصل الأمر إلى القتل بالشبهة بما طبع عهده بالدموية، رغم أن الجرأة على العصف بالرؤوس وسفك الدماء استمرت بعده.
فيما روبسبييرية سعيد بيضاء لا إعدامات فيها، وإن تم اعتماد المحاكمات العسكرية لترهيب خصومه وكبح جماحهم من جهة، وتخدير من تقوم مساندتهم له على مطلب إقصاء هؤلاء الخصوم من جهة أخرى. لكن كما محكمة الثورة ليست صنيعة روبسبيير فمحاكمة المدنيين أمام المحكمة العسكرية سارية قبل زمن سعيد. والقوى السياسية المتضررة والمتذمرة منها الآن لم تضع حداً لها خلال 10 سنوات من الانتقال الديمقراطي و"الإسهال التشريعي"، ولم توقف العمل أو تنقح النصوص القانونية العائمة من قبيل "ارتكاب أمر موحش" و"المسّ من المعنويات" و"الإخلال بالنظام العام"، التي يتم تكييفها منذ زمن ما قبل الثورة لأغراض قمعية.
أرهب روبسبير خصومه بمقاصله ولجانه وأسكنهم مربع الخوف على امتداد سنة استبداده بالحكم، منها خمسة أشهر من الحكم المطلق، وقد ذهب لوبون للقول: "كان خوفُه من زملائه أشد كثيراً من خوفهم منه"، ولعل ذلك من أسباب ما بلغ من دموية. قبل أن يكون اشتداد هذا الخوف مع طول أمد الإجراءات الاستثنائية، بما خلق مللاً وتململاً منها ومن رعب المقاصل، دافعاً لأول أصوات المعارضة الصريحة تداعت معها أخرى خلال جلسة انقلبت فيها الموازين على روبسبيير بشكل دراماتيكي ليتهاوى أمام مجلس سارع لإعدامه في غياب معارضة لسقوطه، أو قبل أن تتصاعد أصوات معارضة، فاليعاقبة لم يغيبوا عن الفعل السياسي في زمن حكومة المديرين الذي تلاه.
يختلف الوضع مع سعيد البعيد عن تلك الدموية المُرهبة، لكنه أمام شعب جعله عقدٌ من الأزمات والخيبات قليل الصبر سريع الغضب على غرار الشعب الفرنسي في ذلك الزمن المجنون، لذلك سارع لوضع خارطة زمنية للخروج من مرحلة التدابير الاستثنائية إلى غطاء الاستفتاء ومن ورائه الدستور ليكتسي عباءة الشرعية التي ينشد، وقد فقَد حيزاً ليس بالهين من القاعدة الجماهيرية العريضة التي انطلق بها، كما انصرف عنه عددٌ من داعميه ومناصريه من "النخبة"، لاسيما متطرفو اليسرجية بعد خيبة عدم حذف الهوية الإسلامية من الدستور وأنه لم يحقق ما يبتغون من سحل وسجن الإسلاميين. وسواء نجح الاستفتاء أو فشل فسيستنبط سعيد علة للبقاء وادعاء الشرعية. ويبقى استمراره أو سقوطه رهين قدرته على الإنجاز من عدمها خصوصاً في الجانب الاقتصادي الحرج والمتأزم.
يقول لوبون عن روبسبيير: "يستحيل أن يكون نجاحه قد نشأ عن فصاحته، فقد كان يقرأ بصعوبة خطبه التي لم تكن غير كلمات مجردة باردة مبهمة" و"كان ينقح خطبه طويلاً". كذلك سعيد ليس من مجيدي فن الخطابة والتواصل. ويجمع لوبون بعض الآراء في روبسبير نافياً أن تكون وحدها توصفه، إلا أني أرى في كل منها شيئاً منه وشيئاً من سعيد أيضاً، منها قول إن "مبادئه سبب نجاحه"، أو إنه "معجب بنفسه غارق في بحر المجردات" أو "إن سر قبضه على زمام الحكم هو أخذه أهل النقائص ومقترفي الجرائم مطية لطموحاته".
والنقطة الأخيرة مهمة في تبصر ملامح مرحلة تلي فرضية "سقوطٍ سريع" يتمناه خصوم سعيد. فالقوى السياسية المناهضة له لم تقم بأي مراجعات أو إصلاح يُذكر وخيرت رمي جل الوزر عليه، بما أبقى شرخ الثقة سحيقاً بينها وبين عامة الشعب، بما يجعل ما ينشدون من عودة إلى الحكم في هذه المرحلة يقوم على ركيزة هشة لا تخول القدرة على الفعل والإنجاز في ظرفٍ اقتصادي حالك، حالهم من حال القوى السياسية التي خلفت روبسبيير، حيث غلب الخوف من تغول طرف بعينه، فأعادت إنتاج نظام حكم ضعيف عاجز عن الفعل، وغرقت في صراعات خرقت فيها الدستور والقوانين وزادت من تعفن الوضع السياسي والاقتصادي بما أدى إلى أفولها وسقوط الجمهورية الأولى بانقلاب نابليون بونابرت وسط نوعٍ من الرضا والتأييد من شعبٍ ملّ الفوضى ورأى في نابليون الرجل القوي القادر على الإنجاز وقيادة البلاد نحو الاستقرار. وسأتطرق في مقال لاحق إلى جوانب من هذه الفترة بما تحمل من تشابه في أسباب السقوط مع انقلاب سعيد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.