تسعى الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 وصعودها إلى قمة هرم النظام الدولي أحادي القطبية، إلى تصوير نفسها بالدولة الرائدة في مجال تطبيق الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان وترويج هذه المبادئ والقيم في العالم والشرق الأوسط على وجه الخصوص.
وفي المقابل تواجه البروباغندا الأمريكية اعتقاداً راسخاً لدى العرب وشعوب دول العالم الثالث، بأن السياسات الأمريكية غير عادلة تجاه قضاياهم، وأنها منحازة إلى حلفائها، إلى جانب النخب الحاكمة في بلدانهم التي تخضع للإملاءات والشروط الأمريكية.
الديمقراطية الأمريكية التالفة
في الوقت الذي تُنادي فيه الإدارات الأمريكية على اختلاف مشاربها، بضرورة احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، لا تزال الأعراق غير البيضاء في المجتمع الأمريكي تُعاني بشدة من الظلم العنصري، كنتاج للعنصرية النظامية الأمريكية.
وليست حادثة وفاة جورج فلويد في أوساط عام 2020، سوى حلقة من مسلسل العنصرية والتمييز وعدم المساواة التي يعاني منها السود وغيرهم. حيث لم يكن تأسيس حركة "Black Lives Matter" الأمريكية في العام 2013، إلا استجابةً لتصاعد حدة الظلم العنصري، ووحشية الشرطة، وانتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة.
وقد أظهرت آخر الأبحاث الأمريكية، أن الأطفال حتى الذين تقل أعمارهم عن ثلاث سنوات يُلاحظون ويعلّقون على الاختلافات في لون البشرة. هذا فضلاً عن واقع استمرار إنتاج العديد من الأفلام الهوليوودية والكتب والروايات الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، والتي تتناول قضايا التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية.
ازدواجية معايير
تمارس الإدارة الأمريكية ازدواجية المعايير، تحت مبرّر أن مجالات الحكم على الأمور ليست واحدة وليست متشابهة، ومن ثم فالمعيار الذي قد يكون مناسباً فى مجال، قد لا يكون مناسباً في مجال آخر. حيث يأخذ المتحدثون باسم الإدارة الأمريكية بهذا المنطق عندما ينتقد البعض حكومتهم، بأنها لا تتبع المعايير نفسها في حكمها على احترام حقوق الإنسان في كل من روسيا و"إسرائيل".
وبما أن روسيا خصم الولايات المتحدة الأبرز في مجال السياسة الدولية و"إسرائيل" أهم حلفائها، تشن الإدارة الأمريكية أشد الهجوم على روسيا بدعوى انتهاكها حقوق الإنسان في أوكرانيا، وفي الوقت نفسه، لا تنتقد استمرار "إسرائيل" في انتهاكاتها الجسيمة وسياساتها العنصرية والمتوحّشة تجاه شعب فلسطين وأرضها، بل تشجّعها وتوافق عليها.
ولعلّ ما قامت به الإدارة الأمريكية بتاريخ 20 مايو/أيار 2022 برفع منظمة كاخ الصهيونية المشهورة بارتكابها مجزرة الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل عام 1994، من "قائمة الإرهاب" الأمريكية، لَهو شاهد آخر على نفاقها السياسي، وازدواجية المعايير الأمريكية في الإنسانية والعدالة.
الانتقائية في التعامل مع القانون الدولي
الانتقائية هنا تختلف عن ازدواجية المعايير، فإذا كانت الولايات المتحدة تقوم بتبرير ازدواجية المعايير بمقتضيات السياسة العملية، وإن كانت مرفوضة من الناحية الأخلاقية، فإن الانتقائية تفتقد التبرير العملي، فضلاً عن أي أساس إنساني وأخلاقي.
يقول جورجيو أجامبين: "ليس الاستثناء هو الذي يُطرح من القاعدة، بل القاعدة هي التي تخلق الاستثناء بتعليق نفسها، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي تؤسس بها نفسها باعتبارها قاعدة ما، من خلال الإبقاء على علاقة بينهما بشكل ثابت…". وهذا ما يفسر تماماً كيف تقوم الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام القانون لخرق القانون، كما فعلت عندما أقرّت القانون العسكري عام 2001، كردّ فعل على أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، والذي يجيز اعتقال الأجانب المشتبه بتورطهم في أنشطة "إرهابية" لأجل غير مسمى.
ويمكن إسقاط حالة الاستثناء هذه على كيفية التعاطي مع قضية الأسرى، حيث يقوم السياسيون الأمريكيون والإسرائيليون بإصدار تشريعات تحاول محاكاة أعراف ومواثيق حقوق الانسان، بينما يقوم الأمنيون منهم بخلق حالة "الاستثناء"، بالمعنى الذي أعطاه أجامبين، أي تلك الحالة التي تهدف إلى إقصاء غير المرغوب فيهم والذين يشكّلون فئة "يحتمل أن تكون خطرة"، وبالتالي فإن حالة الاستثناء هي القانون الذي تتماشى معه السياسات الأمريكية والإسرائيلية.
ولعلّ مصادقة الكونغرس الأمريكي على قانون "تايلو فورس" في العام 2018 والذي يربط تحويل المساعدات إلى السلطة الفلسطينية بوقف مخصصات الأسرى، يأتي في إطار التشريع الاستثنائي لخدمة الهدف الإسرائيلي الرامي إلى فرض حالة "الاستثناء" على الأسرى الفلسطينيين، بمعنى تصنيفهم ضمن فئة خاصة خارج فئة أسرى الحرب.
وقانونياً، يعتبر هذا القانون الأمريكي مخالفاً للقوانين والاتفاقات الدولية، حيث تشير المادة (98) من اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949 إلى أنه "من واجب الدولة الحاجزة أن تفتح حساباً منتظماً لكل شخص معتقل تودع فيه المخصصات، والأجور التي يتقاضاها، وكذلك المبالغ التي ترسل إليه، كما يحق للمعتقلين أن يتلقوا إعانات من الدولة التي يكونون من رعاياها، أو من الدول الحامية، أو من أي هيئة تساعدهم، أو من عائلاتهم".
ويقود ذلك إلى افتراض استنتاجي، مفاده أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تقبل بالاتفاقيات الدولية كمعيار للعلاقة القانونية بين سلطة الاحتلال الإسرائيلي والأسرى الفلسطينيين، إلا أن قبول الولايات المتحدة المعايير الدولية في الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين من خلال صفقات التبادل التي تمت بين الطرفين المتحاربين وفقاً لأحكام القانون الدولي، يؤكد اتبّاع الولايات المتحدة نهجاً انتقائياً في التعامل مع القانون الدولي.
وقد عبّر الدبلوماسي الأمريكي جون برادي كليسنغ عن النهج الانتقائي الذي تمارسه إدارة بلاده بقوله: "إننا نحمّل النظام الدولي الذي بنيناه بكل هذا الجهد والمال فوق طاقته، وهو عبارة عن نسيج من القوانين والمعاهدات والمنظمات والقيم المشتركة، يقيّد خصومنا، بشكل أكثر فعالية مما يقيّد قدرة أمريكا على الدفاع عن مصالحها".
خاتمة
تكشف مراجعة السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء، ومتابعة أنماط السلوك الأمريكي الرسمي، على مدار العقود الماضية، تأصيلاً للمعايير المزدوجة في السياسة الأمريكية والانتقائية في التعامل مع القانون الدولي، فيما يبدو أنها باتت تُشكّل أبرز أدوات استراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي تستخدمها الولايات المتحدة في تقليم أظافر خصومها وخصوم حلفائها.
وإن كانت ازدواجية المعايير وهذه الانتقائية الأمريكية، قد كان لها أثر بائس في حياة الوطن العربي، بفعل تشرذم وتفتّت النظام السياسي العربي البائس، فإن الأمر مختلف بالنسبة لقوى صاعدة مثل الصين وروسيا، واستخدام الأدوات نفسها مع هذه القوى، سيكون له وجوباً آثار سلبية، وقد يؤدي الاستمرار فيها، إلى اتباع الولايات المتحدة سياسات كارثية لن تعود فى النهاية بالضرر إلا عليها.
في هذا الصدد يجدر القول إنه من العقلانية في الظروف الحالية أن يقوم أصحاب القرار في الدول العربية ودول العالم الثالث والعالم الحر، باستغلال هذه البيئة لاتخاذ إجراءات مشتركة على الأصعدة الإعلامية والقانونية والجماهيرية والحقوقية والإنسانية والدبلوماسية وغيرها، تؤصل لمرحلة جديدة من العمل الدولي المشترك، قوامها مواجهة القوى التي تمارس الانتقائية والمعايير المزدوجة، وتعمل على تقويض أسس القوانين الدولية والإنسانية لمصالحها الخاصة، وذلك كلّه تحت شعار "القانون الدولي لا يتجزأ".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.