أثناء دراستي لكتاب "القضايا الكبرى" للمؤلف والمفكر مالك بن نَبي، لفتتني جملة في مقدمة الكتاب جاءت وكأنها صفعة لتبقى أمام عينيّ في كل ما سأسلكه بعد لحظة قراءتي لها، وهي "وأمامنا أمران لا ثالث لهما: رسالة أو خضوع".
وهي مقولة فكرية عميقة تصف العالم وتصنّف ساكنيه لصنفين وهما: من يحملون الرسالة ويأخذون زمام المبادرة ممن يعملون لاسترجاع قرارهم السيادي. والصنف الآخر الخاضع للسياسة الممنهجة بنهبه وسلب فكره ومبادئه وسرقة ثرواته.
أما عن بوادر سلب فكر شعوب المنطقة التي تأخذ مرجعيتها من صانع الأرض والإنسان، المرجعية التي تعلمنا بدقة كيف ننتج فرداً وفقاً لما تقتضيه الإنسانية، منضبطاً، عالماً أنه يسير في رحلة قصيرة الأمد، وكذلك بالهدف من سيره في هذه الرحلة وإلى أين يتجه، وما هي رسالته التي يحملها.
ثم يتفرع من هذا الفرد أفراد -أي أُسرة- ومن ثم المجتمع. تلك المرجعية لو عادت لها منطقتنا لتماسك المجتمع، وإن تماسك المجتمع- أي الأفراد الذين يشكلون الأُسرة والذين يعرفون رسالتهم جيداً وأدوارهم- لهو خطر على قوتهم وطموحهم بالسيطرة (قوة غيري تعني ضعفي).
لذا هم خططوا بعناية لضرب هذا التماسك والجمع، وبدأوا بالترويج للمثلية الجنسية وعديد الأفكار الشاذة التي تسلب منا العائلة بوصفها مؤسسة اجتماعية على أنها حرية اختيار، وأنهم يدعمون الإنسان وحقوقه وحرية اختياره، واضعين أمام أبنائنا الأسوار والملهيات والمسليات والأفكار المادية مرجعيتها لكي يُحدثوا خللاً بما تقتضيه الإنسانية، بجعل جزء من الإنسان يسيطر على كله- لأن مكوني الإنسان هما العقل والروح/النفس- ويجعلون بهذه الأفكار مرجعيتنا وآلهتنا التي نأخذ منها الأوامر هي نفوسنا وشهواتنا.
لذا يبثون الأفكار تلك في أفلام الأطفال الكرتونية، وكذلك يضعون رمز الانحطاط الذي يُشير لتلك الأفكار المنحرفة على كل ما يرتديه الأطفال من حقائب وملابس وأحذية. والصفقات مع شركات إنتاج الثياب، لإيصال رسالة أن اللباس العصري الحر المنفتح هو الذي يحمل تلك الرموز، وكذلك بثهم الأفكار تلك في الأفلام والإعلانات والفيديوهات والأخبار التي نشاهدها نحن الكبار يومياً، وهذا كله ليعودنا وأبناءنا على رؤية الانحراف على أنه شيء طبيعي.
لأن الإنسان الذي يرفض فكرة ما أو شيئاً ما بتعرضه المستمر والدائم له تنطفئ حميته نحو ما يرفض. وهنا تكمن الدقة في التخطيط وخلق الاعتيادية نحو الفكرة الموجهة المراد منها ضرب المجتمع، وبهذا نكون قد وصلنا وأبناءنا وأسرنا لشق "الخضوع الفكري"!
أما عن سرقة الثروات بشكل مباشر أو إحكام القبضة عليها، أي حرمان شعوب المنطقة من الاستعانة بمواردهم التي من خيرات بلادهم، وهذه إحدى خطوات الإقناع، لأن من يريد أن يتموضع سياسياً ويستقل يحتاج لبناء قوة، ولبنائه القوة يحتاج لموارد، سواء أكانت عسكرية وبشرية، أو ثروات ذاتية، ليتمكن من الاستغناء عن الحاجة للخارج، وهذا ما يجعله في أوج قوته.
لذلك فإن هدف سرقة تلك الثروات أو إحكام القبضة عليها هو قطع الوريد المغذي، الذي يمكن أن يؤهل شعوب المنطقة للتملص من الخضوع.
ويتمثل منع أي احتمالية لتحرر شعوب المنطقة واستقلالهم باختيار القوى العالمية قيادات تحقق أجنداتها بعناية، والتي هي أيضاً تضمن إحكام قبضتها بشكل متين بحيث من يخالف القاعدة المفروضة تتولى أمره القيادة المُختارة.
يمكن أن نأخذ كل قادة بلادنا كبرهان على ذلك.
قبل أسبوعين في نابلس (مكان تحت سيطرة القيادة الفلسطينية) قمعت قوات أمن الجامعة وقفة طلابية أُقيمت في الجامعة؛ من قمعها هم تابعون للقيادة الفلسطينية وليس للصهاينة، وعلى قول السليط الإخباري "القيادة الفلسطينية بهذه الحركة توجه رسالة للصهاينة وبتقلهم إذا أنتو مش موجودين نحنا موجودين ومنقوم بالواجب"، وقس ذلك على جميع أرجاء البلاد.
وبذلك تكون القوى العالمية نجحت في الوصول إلى القمة في خطواتها لضمان التبعية المطلقة، لكن ومع كل هذا التدبير هناك احتمالية لحصول ثورات على تلك القيادات المختارة التي تنفذ أجندتهم، لذا فهي تحتاج لاستئصال أي احتمالية يمكن أن تجعل أفراد المجتمع متماسكين يصلون إلى ما يَصبُون إليه، لهذا عملت على خطة وضع الشوك الكثيرة على مرجعية الشعوب العقدية، لتضمن عدم رجوع أفراد المجتمع إليها، لما سيجدونه من نتائج غير مستحسنة.
ويمكن أن نأخذ تنظيم داعش الذي انتشر كالسرطان وكذلك الفصائل في سوريا مثالاً على ذلك.
حيث إنه بعد الفراغ الذي أحدثته الثورة السورية في المنطقة، وحصول خطر عودة المجتمع لدليلهم العقدي الذي يمكن أن يشكل خطراً على أجندتهم، كان يتوجب عليهم البحث عن طرق لسد الثغرة تلك.
لذلك تمثلت الطرق بخلق تلك التنظيمات ودعمها، وكذلك كانت هذه المحاولات تصب بمخطط التفريق بين أفراد المجتمع أيضاً، ويمكن أن نأخذ الاقتتال بين الفصائل في سوريا وعدم توحدهم، وكذلك وجود حكومتين لكل واحدة أجندة مختلفة عن الأخرى في جزء صغير من دولة، وما شابه من هذا كأمثلة على ذلك.
فصار المجتمع مقسماً إلى عدة أقسام، من ينتمي للفصيل كذا، ومن يؤيد الحكومة كذا، وكلهم ضد بعضهم. وبهذا تكون قد عرفت جيداً كيف تُفرق الجمع.
بالعودة لـ"وأمامنا أمران لا ثالث لهما.. رسالة أو خضوع"
فكل ما سبق كان شرحاً لشق الخضوع، وأن كل ما يحيط بنا هو من ضمن الخطوات التي توصلهم لهدفهم، وهو القوة المُطلَقة والسيطرة المُحكمة ولعلّنا نحن أصحاب الرسالة نستفيد من دقتهم هذه، حيث إنهم يعرفون ما يريدون (أي واضح هدفهم)، ويعرفون كيف يصلون إلى هدفهم، ثم يخططون بشكل دقيق ويستثمرون كل فرصة تصب بهدفهم ثم يَصِلون!
نلخص الهدف من كل ذلك وهو: لمنع تموضع أصحاب المرجعية الرسالية السليمة سياسياً، لأنهم إذا تموضعوا تماسك المجتمع وضعفت قبضة القوى العالمية على المنطقة، وبالتالي على ثرواتها ومواردها المادية والبشرية، لأن تلك الموارد والثروات تذهب لدعم الرسالة التي يحملها أهل المنطقة، وهذا يعني ضعفهم.
لذا ألم يئِن الأوان لنحمل رسالة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.