أخيراً وبعد انتظار طويل وتشويق يذكّر بأفلام الحركة، صدر مشروع دستور الجمهورية الجديدة لرئيس الجمهورية التونسية، منهياً بذلك الجدل والتخمينات حول مضامينه. ليعرض للنقاش العام وليتخذ كل طرف موقفه منه في استفتاء 25 يوليو/تموز 2022 بنعم أو لا. لكن ما هي مضامين هذا الدستور المشروع؟
يتضمن مشروع الدستور الجديد 77 فصلاً من دستور 2014 حاضرة كليّاً أو جزئيّاً فيه بما في ذلك الفصل المحصن لمهام الرئيس طيلة فترة حكمه والذي احتج عليه البعض ممن وضعوه في دستور 2014، وهو الفصل 87 في دستور 2014 و110 في مشروع الدستور الجديد، وقد نقل حرفيّاً دون تغيير والذي ينص على: "يتمتع رئيس الجمهورية بالحصانة طيلة توليه الرئاسة، وتُعلَّق في حقه كافة آجال التقادم والسقوط، ويمكن استئناف الإجراءات بعد انتهاء مهامه. لا يُسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه"، ولذلك السؤال الذي يطرح: إذا كان هذا الفصل غير دستوري فلماذا وضع في دستور 2014؟ ولعل الجواب البديهي أن المشرعين أرادوا تحصين زعماء أحزابهم ومنظماتهم من المساءلة، واليوم حين خرج الأمر من أيديهم نددوا به.
إن الباب الأول والثاني نقلا حرفيّاً من دستور 2014، حيث فككت بعض الفصول وأُعيد كتابة فصول أخرى كما هي حرفيّاً دون تعديل أو تفكيك. فباب الحقوق والحريات هو نفسه الموجود في دستور 2014 دون تغيير يذكر.
1- الدولة والإسلام والمدنية
في دستور 2014 يوجد فصل أول ينص على أن تونس دولة حرَّة، مستقلَّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها. لا يجوز تعديل هذا الفصل. ويوجد فصل ثانٍ ينص على أن تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون. لا يجوز تعديل هذا الفصل. في مشروع الدستور الجديد لا نجد ذكراً لمدنية الدولة ولا للمواطنة ولا لإرادة الشعب ولا أي ذكر لعلوية القانون، فهذه المفاهيم لا وجود لها في باب الأحكام العامة كما هو الشأن في دستور 2014. أما الفصل الأول والذي أثار الحديث عن حذفه الكثير من الجدل خاصة حول علاقة الدولة بالدين الإسلامي، فقد فكك في الدستور الجديد إلى أربعة فصول، وهي الأول والثاني والخامس والسادس، فأصبح للإسلام فصل خامس خاص به ومكانته في الجمهورية الجديدة للرئيس، وأصبح للغة العربية فصل سادس خاص بها وبمكانتها في الجمهورية نفسها. وإذا كان فصل اللغة لن يثير أي تبعات، فإن فصل الإسلام وعلاقته بالجمهورية مقروناً بحذف كلمة المدنية ومفهوم المواطنية سيفتح باب تأويل لن ينتهي مع الاستفتاء ولن ينتهي بعده حول علاقة الدولة بالدِّين ومكانته في التشريع. هذا الفصل ينص على ما يلي: تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدِّين والحرية. وهي كليات حددها الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة" فتحاً لباب الاجتهاد ومحاولة لتمكين الأمة من مواكبة تحولات العصر. وتطبيق هذه الكليات يطرح إشكالات عديدة، خاصة أن نص الدستور الجديد يلزم الدولة بتحقيق تلك المقاصد، وهو أمر يدفع للتساؤل عن آليات تحقيق ذلك. فهل الرئيس مؤهل للنظر فيها وهي تتطلب علماً شرعيّاً ومقاصديّاً ليس في متناول أي كان؟ هل سيشكل هيئة لكبار العلماء تحقق للدولة تلك الغاية؟ وعلى أي أساس يجري اختيار هؤلاء؟ هل يسند الأمر للمحكمة الدستورية للنظر في مدى تطابق القوانين مع تلك المقاصد؟ والأسئلة لا تنتهي، ولكنها تؤدي جميعاً لفتح باب خطير حول إمكانية تحول الرئيس لمرشد عام أو إمام أكبر باسم تحقيق مقاصد الشريعة، وهو باب قد يمكِّنُ من أراد الرئيس إقصاءهم بحذف الفصل الأول القديم من كل الأدوات للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية (هناك شرائع طبقاً للتيارات والفرق والمذاهب والملل الإسلامية) تحقيقاً للكليات الخمس. فالرئيس من حيث أراد إقصاء التيارات والحركات الإسلامية قد فتح لها الباب على مصراعيه. فالفصل الخامس يكرس الإسلام كأحد مصادر التشريع الأساسية تحت مسمى مقاصد الشريعة، ويلزم الدولة بتحقيق تلك المقاصد دون أن يحدد من له مسؤولية تحديد تلك المقاصد؛ مما يفتح الباب لكل فائز في الانتخابات الرئاسية والتشريعية لينصب نفسه مشرعاً ومؤولاً للمقاصد كما يشاء. لقد كان الفصل الأول لدستور 1959 و2014 أكثر ذكاء في تحديد علاقة الدولة بالدين وهو يضمن علمنة الدولة، أما الفصل الخامس للدستور المقترح فيفتح الباب لتحول تونس لدولة ثيوقراطية. فالفصل الخامس توريط لمن يعتقد أن الدستور الجديد يؤسس لدولة علمانية، وهو تبني لرؤية الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة (ليس على الطريقة البورقيبية في الفصل الأول) أن تونس ليست دولة علمانية، بل إسلامية تقدمية أو تنويرية.
2- فصل السلطات
إن تسمية السلطات بالوظائف تلاعب لفظي لا يستقيم مفهوميّاً وقانونيّاً، ولكنه يرضي نرجسية الرئيس التي تجلت خاصة في التوطئة المملوءة حشواً لفظيّاً وتاريخيّاً لا أهمية له في بناء الدساتير التي تمثل عقوداً اجتماعية تؤسس للعيش المشترك وتحد من هيمنة الناس بعضهم على بعض ولا قيمة لها إن لم تقم على تنازل الكل لفائدة الكل، فالدستور المبني على الغلبة لا ديمومة له فهو زائل بزوال من شرعه.
إن الدستور الجديد قائم على صلاحيات مطلقة للرئيس، وحد من صلاحيات بقية السلطات مما لا يسمح بأي رقابة أو حد من نفوذ السلطة التنفيذية أو الوظيفة التنفيذية كما يحلو للرئيس تسميتها. فالرئيس هو من يحدد السياسة العامة للدولة ويعلم بها المجالس النيابية، وهو من يعين الحكومة ورئيسها، وهي أيضاً مسؤولة أمامه، ولم يحدد الدستور أسس اختيار رئيس الحكومة، هل هو من الحزب الفائز بالأغلبية في مجلس نواب الشعب أم من الأفراد الفائزين في مجلس الجهات والأقاليم (غرفة جديدة وضعها الرئيس) أم شخصية وطنية لا علاقة لها بكل ذلك. وحتى إجراءات لائحة اللوم وشروطها يصعب تنفيذها.
إن مشروع الدستور الجديد يهمش تماماً السلطة التشريعية ويحصر وظيفتها في الموافقة على الميزانية ومتابعة تنفيذها، ويعطي صلاحيات الرقابة والمساءلة للمجلس الوطني للجهات والأقاليم وليس لمجلس نواب الشعب، لأن الرئيس يتوقع السيطرة على مجلس الجهات لأن التصويت فيه سيكون على الأفراد، في حين تكون السيطرة للأحزاب في مجلس نواب الشعب لأن الانتخاب سيكون على القائمات، بحيث تشارك الأحزاب في الحياة السياسية دون أن يكون لها أي نفوذ أو دور إلا تجميل سلطة الرئيس الديمقراطية وهو أمر يذكر بمجلس نواب الشعب ومجلس المستشارين في عهد الرئيس زين العابدين بن علي.
إن الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فصل شكلي لا يرتقي حتى لمستوى تطبيق النظام الرئاسي المعمول به في الولايات المتحدة الأمريكية، فرغم هيمنة رئيس الدولة على السلطة التنفيذية بشكل مطلق فإنه يخضع لرقابة من الكونغرس بغرفتيه حتى لا يتغول. فمن سيمنع الرئيس من التغول والاستبداد في تونس؟ لا أحد حسب نص الدستور الجديد.
3- الرئيس والقضاء
هل يمكن ضمان الحريات والحقوق دون قضاء مستقل؟ بالطبع لا وإن كانت الفصول المتعلقة بالسلطة/الوظيفة القضائية تضمن نظريّاً استقلالية القضاء وبأنه لا يخضع إلا لسلطة القانون، فلا سلطان على القضاة حسب الفصل 117 من المشروع في قضائهم لغير القانون، فإن عدم وجود مجلس أعلى للقضاء موحد بل ثلاثة مجالس طبقاً لخصوصية كل هيئة قضائية (عدلي/ إداري/مالي) لم يحدد الدستور هل هي منتخبة من القضاة أم معينة من الرئيس؟ قد يفرغ هذه الاستقلالية من كل مضمون ويجعلها استقلالية شكلية، خاصة إذا أسند تعيين أعضاء المجالس العليا لرئيس الجمهورية.
أما المحكمة الدستورية فالتغيير الوحيد مقارنة بدستور 2014 أن الأعضاء أصبحوا بصفتهم قضاة سامين في محكمة التعقيب لكل من القضاء العدلي والقضاء الإداري ومحكمة المحاسبات (التمييز والنقض في الشرق العربي) وأقصي غير القضاة منها، وبالتالي لم يعد للمجالس النيابية أي دور في اختيارها؛ مما يمكِّن من انتصابها مباشرة بعد الموافقة على الدستور خاصة أن المجلس النيابي والأحزاب التي فيه هي من عطل انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية خلال الفترة السابقة، وهذا التعطيل هو الذي مكَّن الرئيس من تأويل الفصل 80 من دستور 2014 حول التدابير الاستثنائية على هواه، وأوصل تونس إلى الحالة التي فيها اليوم.
بقدر ما كانت الفصول في البابين الأول والثاني شبه متوازنة بقدر ما كانت فصول السلطتين التشريعية والتنفيذية تفتقد لكل التوازن وتهدد بنسف كل الحقوق والحريات الواردة في الباب الثاني، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة. ولعل ما يمكن ملاحظته أخيراً حول هذا الدستور أنه لا يمثل بأي حال من الأحوال تأسيساً لجمهورية جديدة بقدر ما هو نكوص نحو الماضي السحيق وحلم من الرئيس أن يصبح سلطاناً حاملاً لطغراء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.