يتحدث (جيفري جايمس) في كتابه (مكة الثورة) عن مكانة الجزائر في عالم الثورة، ثم يجعلها مركز العالم الثوري، وهذا ليس بالغريب على الدور المركزي الذي كانت تلعبه الجزائر في مرحلة ما بعد الاستقلال (1962). في هذا الكتاب يتحدث جيفري عن تجاوز تأثير الجزائري الثوري الحيز الإقليمي بأشواط، فكانت مع حداثة سن هذه الدولة تضطلع بدور أساسي ضمن مراكز قوة مختلفة ضمن السياق الأفروآسيوي ثم انتقلت به إلى سياق عالمي داخل الأمم المتحدة.
هذا الحضور القوي لم يستمر طويلاً بسبب دوامة العنف التي دخلتها الجزائر بداية من سنة 1989 واتسع الخرق على الراقع بعد سنة 1992، حينها دخلت الجزائر مرحلة غيبوبة قصيرة. حاولت الجزائر بعد سنة 2004 استرجاع حضورها الدولي بعدما نجحت في خلق توافقات وتوازنات مؤقتة بين زمر الصراع التقليدية في فترة ما بين (1999-2004). لكنها فشلت في استرجاع الزخم الذي كان لها بفعل فلسفات وسياسات خاطئة.
الآن ترجع الجزائر من جديد وهي تسعى إلى وضع ثقلها الجيوسياسي لترسم مساراً جديداً للانعتاق، لكن هل تكفي التصورات الحالية والأدوات القديمة في تحقيق هذا الهدف في عالم اليوم المتسارع؟ هل تصلح السياقات الثورية التي تحملها الجزائر في بناء تصوُّر جديد لجزائر جديدة معتزة بماضيها الثوري وتتطلع إلى غد تكون فيه أقوى وأكثر ثباتاً.
لعل هذه الأسئلة على قدر ما يمكن اختزال إجابتها في أسطر مباشرة على قدر ما يبدو ذلك صعباً، وقد جاءت احتفالات ستينية استرجاع الجزائر لسيادتها من يومين لتثير في مجموعة من الأسئلة أشاركم إيَّاها في هذه المقالة لعلنا نقف على إجابة مشتركة.
كنت في المكتب أشتغل عندما وصلني تنبيه في وسائط التواصل الاجتماعي بمشاهدات كثيرة على أحد العروض المباشرة، وبفضول قلت ما الذي يوجد في هذا البث، فتحته لأشاهد مثل غيري مِن الجزائريين بفخر واعتزاز الاحتفالات الستينية المخلدة لذكرى استرجاع السيادة، وشعرت باعتزاز الانتماء للجزائر وأنا الذي أعيش سنتي التاسعة خارجها.
كانت أسباب فخري واعتزازي بما أشاهد متنوعة، لعل أبرزها اختيار تلك هذه المنطقة تحديداً لتكون ساحة العرض بما تحمله من رمزيات كثيرة، من بينها أنَّها الساحة التي أسَّس عليها الاحتلال الفرنسي مشروعه لتنصير الجزائر، فشيدت بها إحدى أكبر الكنائس في الجزائر المستعمرة، ونادى فيها الكردينال لا فيجري بأعلى صوته: "أين أنت يا محمد لتشهد نصرنا؟!".
كان يقولها وهو على يقين أنه لن يبقى للإسلام بقية في أرض الجزائر بعد ذلك اليوم. ظن كما ظن الكثيرون أنّ مآل الجزائر سيكون كمآل الأندلس، غير أنّ لحظة النصر في (5 يوليو/تموز 1962) نسفت آمال لا فيجري نسفاً فتركتها قاعاً صفصفاً، بل زاد الله في منه على أهل الجزائر فسمِّيت هذه المنطقة بتسمية "المحمدية" نسبة إلى خاتم النبيين. الرمزية الثانية التي زادتني فخراً أنّ هذه الاحتفالات كانت تحت ظل جامع الجزائر الأعظم، أحد مفاخر الجزائريين في هذا الزمان.
لقد أُسس هذا الصرح ليكون هوية للجزائر المستقبلية، وأن يكون الاستعراض تحت مظلة هذا المُنجز، فهو فخر لا يقل عن الأوَّل. ثمَّ دخلت أوَّلى الفرق الاستعراضية لجنود الجيش وهم يلبسون لباس جيش التحرير الوطني والقشابية (وهو اللباس الذي كان يلبسه الجزائريون في حربهم مع فرنسا، وما زالوا إلى اليوم يلبسونه) في رمزية أننا لا نتنكر لمن شيد ودافع عن هذه البلاد من السابقين الأولين.
لم تتوقف البشارات هنا، بل أتت التشكيلات العسكرية بمختلف فئاتها ومربعاتها لتمر على مضمار العرض، والجميع سعيد ومفتخر بدقتها وسلاستها وتدريبها، ثمَّ أتبعت هذه الفرق بدخول الآليات العسكرية، والطائرات الحربية والغواصات والسفن البحرية، كان هذا اليوم مِن أيام الله في الجزائر. وزاد فخامته ما ضمته المنصة الشرفية من تشكيلة متنوعة من أصدقاء الجزائر وشركائها، وأبرزهم وجود حركات المقاومة التحريرية. بعضنا اختزلها في صورة بعض قادة المقاومة الفلسطينية لكني كنت أرى بعض القيادات الروحية التي تسعى للانعتاق مِن الهيمنة الفرنسية في صورة الإمام محمد ديكو من مالي، الذي كان شرارة الحراك في مالي ضد الهيمنة الفرنسية.
ثمَّ كان الختام بصورة لا تقل جمالاً عما شهدناه جمعت ممثلين عن الفرقاء الفلسطينيين، في محاولة لرأب الصدع.. لقد كان يوماً من أيام الجزائر. تفاعلت مع الصور المنشورة بفخر واعتزاز.
كل هذه الصور والمشاهد كانت تسعدني، لكن (ودخول لكن هنا سيفسد السياق الجمالي الذي نحن فيه، غير أن وجودها واجب) استوقفني سؤال آخر، كل هذا كان فعلاً جميلاً ويشعرني بالسعادة لكن ما الذي ينقصنا لنستكمل استرجاع سيادتنا؟
قد تقول الآن الصناعة، أن نصنع نحن سلاحنا ونضمن دواءنا ونكتفي بمؤونتنا، بالفعل صدقت. لكني فكرت بشكل آخر: طرحت على نفسي سؤالاً آخر: هل نحن حبيسو اللحظة التاريخية في ثوريتها وعنفوانها؟ فعلاً. نفتخر بماضينا وأمجادنا ونحن الذين حفظنا في صغرنا قول الشاعر:
قد كنا أمس عمالقة | في الحرب نذل أعادينا |
وإنا اليوم عمالقة | في السلم حماة مبادينا |
أبطالا كنا لا نرضى | غير الأمجاد تحيينا |
لكننا مع الأسف تناسينا للحظة (لكنها لحظة طويلة) تتمة هذه الأبيات، والتي يقول فيها الشاعر:
نزهو بالماضي في ثقة | والحاضر يعلو ماضينا |
هل حاضرنا بالفعل يعلو ماضينا؟ ألا يجدر بنا أن نصل بالفعل إلى هذه الآمال؟ ما الذي يمنعنا من ارتقاء هذا المرتقى؟ ما الأمر الذي يجعلنا نبقى أسيري اللحظة التاريخية، وكأنمّا على قول نيتشه نفر من اللحظة الفعلية إلى اللحظة التاريخية، هروباً من حاضرنا إلى ماضينا. أو كأنَّما رضينا بأن نكون أسيري اللحظة الثورية التاريخية.
مع الأسف فإنّنا أضحينا قوالين أكثر من فعالين، وما ينقصنا حالياً هو (الرؤية/المشروع) التي تجعلنا نتجاوز اللحظة الثورية. قد يقرأ البعض هذه الدعوة قراءات مستعجلة ويفسرها تفسيراً خاطئاً، لذا يجب أن أوضح أنَّ الانعتاق من اللحظة الثورية لا يعني التنكر لمبادئنا أو لرصيدنا التاريخي، بل يعني المراكمة عليه للانطلاق في بناء يتجاوز الآنية.
بناء لا يرضى بأن يكون مفعولاً به، بل يجب عليه أن يكون فاعلاً وأن يظل مرفوعاً، بناء لا يمكن أن يتأسَّس إلاَّ على ثنائية العلم والكفاءة. وليس الشرعية والولاء، يجب على الجزائر اليوم أن تنشد أسباب القوَّة وألا تكتفي بمظاهرها. يجب أن تراكم خبراتها كلها لتُؤسِّس للحظة تأخَّرت كثيراً وهي لحظة المشروع. قد أكون حالماً فوق ما يقتضيه واقعنا العربي عموماً، لكني أتمنى أن يفتخر ابني بعد أربعين سنة بصناعة طائرة جزائرية محلية وبغواصة محلية، أتمنى أن نحتفل في مئوية استرجاع الجزائر سيادتها سنة (2062) بامتلاكنا لأحد أفضل الجامعات العالمية، أتمنى أن يأتي اليوم الذي يلجأ فيه المواطن الأوربي إلى الجزائر لأنها أكثر عدلاً وأكثر نمواً، قد تكون أحلاماً، وقد يضحك منها البعض، لكن إن وُجِدت الرؤية وحُدِّد المشروع فقد لا تغدو بعيدة جداً كما نتوهم.
توجد دول ليس لها إمكانيات الجزائر ولا إمكانيات مصر ولا قدرات العراق لكنها في عشرين سنة فقط حققت وثبات عالية، لذا علينا من اليوم أن نُؤسِّس لمشاريع تبدأ بأحلام ونعمل لأجل مئوية الجزائر القوية. مئوية تكون فيها الجزائر قوية مُتطلِّعة لمستقبل مشرق تكون لها كلمة فيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.