وكَّلوا له أشهر محامٍ ومستعدون لدفع الدية.. كيف حصل قاتل نيّرة على كل هذا التعاطف الشعبي؟

عدد القراءات
12,197
عربي بوست
تم النشر: 2022/07/07 الساعة 08:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/07 الساعة 10:23 بتوقيت غرينتش
محامي الرئيس الراحل مبارك يقبل المرافعة عن قاتل نيرة أشرف - Getty Image - مواقع التواصل

الإحساس بأنّ هناك انقلاباً في المزاج الشعبي تجاه تفاصيل قضية نحر نيِّرة، من حيث التعاطف مع الجاني نفسه بدلاً من الضحية المقتولة غيلة في الشارع بـ20 طعنة تقريباً، ليس وهماً أو تلفيقاً، إذ أقرت به أسرة الفتاة مؤخراً بقهر شديد، مطالبة وسائل الإعلام بتحري الحدود الأساسية من أخلاقيات النشر، والجهات المعنية بملاحقة مستخدمي الصور الشخصية للضحية على الإنترنت في تبرير ما وقع عليها.

تجلى ذلك التحول من مناصرة الضحية إلى التعاطف مع الجاني، والانقسام حولهما في أحسن الأحوال، عملياً، في تدشين وسوم تطالب بمعاودة النظر في القضية على أمل إيجاد ما يخفف الحكم بالإعدام عن القاتل، ومخاطبة الجهات الدينية لبحث إمكان العدول عن التصديق على الحكم بالإعدام، وحتى التطوع بجمع الأموال للتأثير على أولياء الدم، وإسناد القضية لأكثر المحامين دهاءً واستعداداً للترافع عن أكثر المتهمين الموثوق في قيامهم بالجرائم.

هذه الحالة النشطة من التعاطف مع القاتل لم تكن موجودة في الساعات الأولى لتداول الحدث، والتي كان الرأي العام كله تقريباً خلالها مصدوماً من فداحة الجريمة، مطالباً بتوقيع أقصى وأسرع عقوبة ممكنة على الجاني، متعاطفاً أشدَّ التعاطف مع أمها الثكلى؛ فكيف حدث هذا الانقلاب؟ ومن يتحمل مسؤوليته؟ وما هي حقيقته؟ 

محمد ليس بلطجيّاً تقليديّاً

هذه حقيقة ضرورية لفهم تعاطي الرأي العام مع تلك القضية. فمنذ البداية، كان الرأي العام على علم بأنّ الشاب جامعيٌ، ريفيٌ، متفوق، وهو ما أثار علامات الاستفهام المكتومة تجاه الواقعة، ولكنّ الرأي العام لم يكن بمقدوره التعبير عنها، احتراماً لمهابة الموت، وخوفاً من شدة التيار الذي يكون عارماً خلال الساعات الأولى لأيِّ حادث، ولنقص المعلومات المتاحة عن الواقعة، اللهم فقط ما ذُكر حينها بأنه فعل ما فعل، انتقاماً من الفتاة لرفضها حبه.

استحضار تلك الحقائق عن هوية القاتل في الذهن العام من البداية، لم يكن مرده محاولة البحث عن أسباب للتعاطف معه، فالمعروف أن الديناميكيّات التي تحكم تفاعل المجتمعات مع تلك الحوادث أبعد ما تكون عن هذا الغرض، وإنما كان الغرض الحقيقي منها التشكيك الهامس في السردية الأولى: قتلها لرفضه. فالمجتمعات تكون، في مثل تلك النوائب، أحرص ما يكون على التماس السبل اللازمة لتفادي تكرار ذلك مستقبلاً، حماية للصالح العام، لا التبرير للقاتل، مهما كانت تلك المجتمعات متخلفة ورجعيَّة وذكوريّة.

نيرة أشرف مصر
المتهم بقتل الطالبة المصرية نيرة أشرف/ getty images

لذا، فالفائدة من الترديد الهامس لحقائق كون القاتل ليس مجرماً تقليدياً كانت محاولة البحث عن الحقيقة والإجابة عن سؤال: لماذا قتلها؟ وليس الدفاع عنه، إذ، في المعتاد، لا يعد الرفض وحده سبباً كافياً لاتخاذ قرار القتل العلني المؤدي للإعدام السريع، خاصة أن الشاب مسؤول عن أسرته المكونة من ثلاث سيدات بعد وفاة والده في سن صغيرة، وأنه، بفضل تفوقه، ينتظره مستقبل جيد، إن لم يكن باهراً حال سلوكه المسار الأكاديمي معيداً في الكلية. 

وفي العادة، يلجأ المجرمون الحقيقيون، سواء كان سبب الجريمة هو الانتقام العاطفي لخيانةٍ أو لرفض، أو أي سبب جنائي آخر، إلى الانتقام من الضحية بطريق غير مباشرة، جسدياً أو معنوياً، لا سيما إن كانت فتاة، بحيث تعرف الضحية أنّ الفاعل الحقيقي هو ذلك الشخص الموجود في حياتها، وفي الوقت نفسه، لا يمتلك المجتمع والقانون دليلاً دامغاً على تورط هذا الشخص، وهو ما يترجم في جرائم الخطف والقتل والتخلص من الجثمان، أو التشويه الجسدي عبر استئجار بلطجي لإحداث عاهة مستديمة بغرض الانتقام.

لم يفعل محمد أياً من ذلك، وإنما قرر القتل بشكل مسرحيٍّ غريب، الطعن القاتل على الهواء أمام الجميع بهويته الحقيقية أمام زملائه وزملائها، فيما يبدو أنه عمل انتحاريٌ، لا يفعله إلا مضطرب عقلي وفقاً للمقاييس السريرية في الطب النفسي، أو شخص مشكلته مع الضحية كانت أكبر من مجرد الرفض، خاصة أنّ الشاب ينحدر، اجتماعياً، من أسرة متواضعة، وهو ما يقدح في رواية أن علاقته بالفتاة كانت علاقة تملك، بناءً على نمط تربيته المدلل في الصغر، فمعظم تلك الطبقات، على العكس من ذلك، يعاني أبناؤها من مشاعر عدم الجدارة والاستحقاق، لا منطق لتكن لي أو لتكن للردى.

ظهور غير موفق للعائلة 

في المقابل من الغياب التام لأسرة القاتل والذي يمكن فهمه في ضوء تعرضهم للوصم الاجتماعي طويل المدى، فقد اتسم ظهور عائلة الضحية بسمات غريبة لا تتناسب أبداً مع مقتضى الحال ولا جلال المشهد. 

في معظم الوقت، بدا أنه لدى العائلة جسارةً وصلابة غير مفهومة، قد ترقى إلى القسوة، كما بدا، كما لو كان هنالك استمراء لفكرة الظهور نفسها، إذ ليس من الطبيعي أن تظهر العائلة كلها، وليس الأسرة وحسب، في عشرات اللقاءات المصورة، بلا أي مبالغة، على نحو لا يتناسب إطلاقاً مع مشاعر الحزن والقهر؛ وهو ما أثر سلباً في النهاية مع شعور المتلقي تجاه تلك العائلة، ومن ثم، وبقفزةٍ غير ضرورية ولكنها مفهومة، شعوره تجاه نيرة نفسها. 

المفترض، أن الغرض الأساسي من ظهور ذوي الضحايا في الإعلام، هو تحويل القضية إلى حالة رأي عام، حتى تتحقق العدالة بشكل سريع، يبعد عن الروتين والإجراءات الطويلة، وعلى نحو لا يتعارض مع جلال المشهد وهيبته.

ولكنَّ أسرة الضحية، في قرار غير موفق، فتحت الباب حرفياً بداية من باب البيت وحتى باب المقبرة أمام كاميرات الإعلام والجرائد الصفراء ومواقع "بير السلم" التي لا تلتزم بأي مواثيق أخلاقية بشكل مبتذل جعل المشاهد يتساءل في نفسه مستنكراً: لم تفعل هذه العائلة هذه الأفعال؟ 

المتوالية التي نعرفها عن ظهور ذوي الضحايا في الإعلام، هي أنّ القنوات تبادر بمطاردة الأهل من أجل الحصول على تصريح، مع رفض ذوي الضحية الظهور لعدم القدرة النفسية على ذلك وحفاظاً على كرامة الضحية، وإن حدث رضوخ لمطلب الظهور، يكون ظهوراً استثنائياً من أجل استعطاف المشاهد للتأثير على الرأي العام، على أن يتكفل ذلك الرأي العام لاحقاً بقيادة الضغط على السلطات التنفيذية والقضائية للوصول إلى أسرع وأقصى حكم ممكن على الجاني عبر الوسوم والنشر.

ما فعله والد نيرة أيضاً على وجه الخصوص كان غريباً للغاية، وهو معلم العربية الذي يعرف أنّ الحكمة والبلاغة أن يكون رد الفعل مطابقاً لمقتضى الحال، لا أن يعلن عن دعوة كبار ووجهاء البلد لحضور مراسم عزاء نجلته، كما لو كان يستغل الحادث لأغراض اجتماعية. 

في الوقت نفسه، فقد ساهم خطاب الأسرة المُلحِّ على أن أحد أسباب رفض ارتباط القاتل بالضحية لم يكن سبباً أخلاقياً أو عاطفياً بقدر ما كان سبباً اجتماعياً، فأخوات نيرة تزوجن من رجال مرموقين في المجتمع بحسب الوالد، فيما كان محمد لا يزال طالباً في الجامعة من أسرة رقيقة الحال، ساهم هذا الخطاب، الموجه لشعب يقبع ثلثه تحت خط الفقر، في مجتمع يعاني ذكوره كثيراً من عقدة الرفض لأسباب طبقية، حتى إنها صارت "ثيمة" سينمائية متكررة، في تحويل دفة التعاطف الاجتماعي، شديد الأهمية، بعيداً عن الضحية، كردِّ فعل دفاعي على الخطاب الطبقي للعائلة، والذي لم يكن يتناسب مع الظرف قط.

كلمة المتهم أمام القاضي

لم يدل محمد أمام القاضي بسرديَّة متماسكة عن الواقعة، وفي الوقت نفسه، لم يتنكر للواقعة بادعاء الجنون، ومع ذلك تحدث عن كلمات مفتاحيّة، اعتبرها بعض المتابعين بمثابة ملء للفراغات التي خلفها المُعطى الأول عن كونه جامعياً متفوقاً لديه حياة تنتظره بغض النظر عن حجم الأذى التي تسببت الضحية في وقوعه عليه، ومن ثم عدم كفاية الرواية الأولى الخاصة بأنه قتلها لمجرد أنها رفضته.

تحدث القاتل على مضض ودون تماسك بإشارات بعيدة، عن والدة الضحية، وعن دورها في تبني الضحية لنمط الحياة الذي لم يكن يعجبه بعض الشيء، وعن عدم قدرة والدها على ضبط إيقاع الأسرة، إلى درجة استعانته به نفسه للمساهمة في تحقيق هذا الضبط. 

ما قاله القاتل في إجاباته تلك، بغض النظر عن صدقه من عدمه، إلا أنه لم يكن أخلاقياً. فمهما كان حجم الضرر الذي تسببت به الفتاة له، فلا يصح الإمعان في قتلها، وأسرتها، اجتماعياً مرة أخرى بهذه الطريقة، حتى لو كانت تلك السبيل الوحيدة لإفلات عنقه من حبل المشنقة، فإذا قلنا مجازاً إنه فعل ما فعل في لحظة شيطان، وهو ما لا يسقط عنه العقوبة، فإنه في لحظة الوعي والاستبصار يصرُّ على سلك أكثر الطرق وعورة وغياباً للشرف، وهي الطعن في البنت وفي الأسرة، ولو افترضنا أنها كانت بهذا السوء الذي أراد تصويرهم به، ألم يكن من العقل واحترام النفس أولاً أن تترفع عن الركض وراء الفتاة وملاحقتها وأسرتها بهذا الشكل الذي كشفته التحقيقات؟ 

ومع ذلك، ورغم عدم أخلاقية تلك الشهادة، إلا أنها نكأت نموذجاً ممجوجاً في الثقافة المصرية الشرقية، وهو نموذج الأم المسيطرة والأب الخانع وآثار ذلك على الأبناء، وهو ما ساعد في تحفيز الرأي العام، مع أسباب أخرى، ضد أسرة الضحية، والضحية نفسها بعد ذلك!

المبالغات والاستقواء 

في إطار المزج بين التفاعل الحقيقي الخالص مع الضحية المغدورة، وبين التفاعل المصطنع من أجل المشهد والتريند، وهو ما بدا في البداية من لجوء بعض الشهود إلى التصوير خلال وقوع الحادث بدلاً من الفزع ومحاولة فعل أي شيء إيجابي، في هذا الإطار، ظهر نوعٌ من ردات الفعل المبالغة التي أدت إلى آثار سلبية على القضية، إلى جانب غيرها من العوامل، آلت في النهاية لما يبدو الآن أنه تعاطف مع القاتل.

على سبيل المثال، رأينا في وسائل الإعلام كثيراً من الأشخاص الذين كان تعريفهم الحقيقي الوحيد أنهم يحاولون القفز على الحالة والظهور بأي شكل، بغض النظر عن الفوائد من هذه المشاركات أو الاعتبارات الأخلاقية؛ فهذا يُكرم لأنه حاول إنقاذها، وذلك لأنه استطاع إثناء القاتل عن نحرها تماماً، وفلان من لقنها الشهادة، وعلان زارته في الحلم، وهذا اللقاء مع من بنى لها مقاماً صغيراً في موقع الحادث. فكما أن تلك الحالة يمكن اعتبارها دليلاً على التعاطف الشعبي الكامل مع الضحية في وقت ما، فإنها تعكس أيضاً، على هذا النحو، قدراً من الابتذال غير الأخلاقي وغير المفيد للقضية، فمصلحة الضحية وذويها في القصاص، لا في أن تتحول إلى أيقونة بلا سبب حقيقي. 

في الوقت نفسه، فقد ساهمت الخطبة العصماء للنيابة العامة ضد القاتل في استفزاز طيف من الرأي العام؛ لأن المجتمع نفسه يعلم يقيناً أن جهات التقاضي في مصر ليست مستقلة، لا سيما في الأعوام الأخيرة، وهو ما طرح سؤالاً وجيهاً انعكس بدوره على الموقف من الضحية: هل كنا لنرى تلك الصلابة والفصاحة والبيان وقوة الحجة من النيابة والمحكمة لو كان الفاعل شخصاً من ذوي النفوذ في البلاد؟ 

تقول الوقائع إن قاتل سوزان تميم، رجل الأعمال ذائع الصيت هشام طلعت مصطفى، لأسباب مشابهة للأسباب التي نسبت إلى واقعة محمد ونيرة، قد نجا من الإعدام، وخرج بعفو رئاسي من السجن، وأصبح شريكاً للحكومة المصرية في الوقت الحالي في مشروعات ملياريّة عملاقة يحصل خلالها على امتيازات هائلة من الحكومة تمويلاً وتسهيلاً وتسويقاً. أي إن القضاء لا يتعامل في الوقائع نفسها تقريباً على النحو نفسه من سيادة القانون والمسافة من المتهمين.

الخلاصة

ما ورد ليس تبريراً بحال للقاتل، وإنما محاولة جادة للفهم، في ظل حالة التشنج على مواقع التواصل، ورأي الكاتب الخالص أنه لا يوجد ما يبرر ما فعله القاتل، فأكثر الطرق فاعلية إذا صدقت الرواية الخاصة بأن العلاقة كانت علاقة منفعة مؤقتة، وأنه لم يكن مناسباً لها من وجهة نظر الأهل لأسباب طبقية، كانت أن ينجح في حياته وأن يتعلم ضبط مشاعره، لا أن يقتلها بتلك الصورة الوحشية التي تمسُّ أمن المجتمع كله، ولا تقتصر آثارها على أسرة الضحية فقط.

ما أعتقده أن جوهر التحول الملاحظ لدى الرأي العام في تلك القضية، لا يتعلق بمحمد ونيرة بشكل مباشر، وإنما يتعلق بموقف الرأي العام من نمط تفاعل أسرتيهما مع الحدث. فالتعاطف الحقيقي، وإن بدا غير ذلك، هو مع أسرة القاتل، التي فُجعت في نجلها الذي كان محط آمالها للارتقاء طبقيّاً في أقرب وقت، وتولي شؤون الأسرة بعد وفاة الأب، والتي، أي الأسرة، وجدت نفسها منبوذة فجأة، على النحو الذي دفعها لترك بيت الطفولة هرباً من أعين الإعلام وألسنة الجيران واحتمالات الانتقام. 

في الوقت نفسه، فإنّ الهبة القضائية، وإن كانت مطلوبة، إلا أن توجيهها حصراً لطرف ضعيف غير نافذ، مع سوء إدارة أسرة الضحية لمسألة الظهور الإعلامي، أمور ساهمت في تفكيك حالة التعاطف الجارف مع نيرة أول الأمر، وهي عاقبة تجنيها الضحية بلا ذنب منها، إذ يعد التعاطف والمواساة مطالب اجتماعية مشروعة في مثل تلك الظروف، وغياب تلك المشاعر وإحلالها بالتعاطف مع القاتل، ولو كان تعاطفاً ظاهرياً، بمثابة قتل آخر للأسرة، ومن الوارد أن يؤثر أيضاً على قرار المحكمة الأخير تجاه القاتل في مرحلة النقض عبر تخفيف الحكم، وهو ما لا يتمناه عاقل!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد