تشكلت فيها حكومات وعاش فيها نجيب محفوظ.. لماذا قررت الحكومة المصرية التخلص من عوامات النيل؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/07/07 الساعة 08:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/07 الساعة 08:42 بتوقيت غرينتش
عوامات النيل - مواقع التواصل الاجتماعي

في الصباح تفتح النافذة على سطح النهر الهادئ، وصوت العصافير، وتوتر صفحة النهر من حركة الأسماك، حياة شبه خيالية، لم تنعم بها إلا قلة قليلة شكّلت تجربة العيش في عوامة كل حياتهم، وأصبحوا لا يعرفون عن الحياة على الأسفلت أي شيء.

تبدو تجربة العيش في عوامة على نهر النيل تجربة مغرية للابتعاد عن ضوضاء العاصمة دون التخلي عن مزاياها المركزية، ويبدو أيضاً الابتعاد عن هذه الحياة بالقوة جزءاً من الحكم بإعدام غير كامل. خلال فترات قليلة فوجئ مُلاك العوامات الأخيرة الكائنة على ضفاف النيل من قبل ولادتهم بقرارات الإزالة بشكل نهائي، بصورة قاطعة، لا استئناف فيها ولا نقض.

اليوم أنت تعيش في حياة لم تعرف غيرها، وغداً أنت تواجه المجهول وتعلق مع كل العالقين على الأسفلت. لا تُشكل عوامات منطقة الكيت كات الجزء الأكثر رفاهية في حياة أصحابها، بل إنها موطنهم الأصلي، مكان ولادتهم ونشأتهم، مروراً بكل مراحل حياتهم، ووصولاً إلى مراحل عمرية متأخرة لا يمكن فيها نزع الجذور الضاربة حتى أعماق النهر بفعل الزمن لأي مكان آخر، ولكننا هنا، حيث قرارات الإزالة لا رجعة فيها!

على ظهر عوامة

يحكي أصحاب العوامات شهادات حول الكارثة التي يتعرضون لها، ثلاثون عوامة فقط هي التي أصبحت تلوث مياه النيل وتشوه مظهر المدينة الغارقة في القوالب الأسمنتية القبيحة، يتحدث مُلاك العوامات/ البيوت التي فجأة صدر قرار محوها من المشهد بلا أي سبب واضح، عن حياتهم التي عاشوها على صفحة النهر الشاهد على سنوات عمرهم وذكرياتهم، التي تقرر فجأة إزالتها وكأنها لم تكن. لا تُشكل العوامة البيت فقط، ولكنها مأوى، وملاذ، أو مكان مستقل بذاته منح أصحابه الدفء وبادلهم الحب لسنوات طويلة، قبل أن يصدر قرار الإزالة.

عوامات النيل في مصر: أصحاب المنازل العائمة يسابقون الوقت لمصير مجهول

تقول الحاجة إخلاص، صاحبة العوامة 77، في تصريحات لموقع "باب مصر" للصحفي "شهاب طارق":

"بيقولوا علينا إننا مبندفعش، فهل هذا كلام يُعقل؟ فهل يُعقل أن نجلس في أرض الحكومة ولا ندفع! إحنا غلبنا، وكنا دائماً ندفع للملاحة، لكن في مطلع هذا العام نبهوا على الملاحة بألا يأخذوا أموالاً منا نظير تجديد الرخصة، أنا حزينة لأن ما يحدث هذا هو خراب بيوت، فأنا لا أملك مكاناً أذهب إليه، ولا أستحق أن أُشرد في آخر أيامي. فأنا عمري 87 سنة، وفي يوليو القادم سأكمل الـ88 عاماً، فأين أرحل؟". 

لا يتبدل القول كثيراً حينما تقول "نعمة محسن"، مالكة العوامة 65 في حديثها مع "شهاب طارق" لموقع "باب مصر":

"حتى عام 2020 كنا نملك رخصة، وبعدها توقفوا عن إصدار الرخص. وقالوا إن وضعنا سيتم تقنينه، وقد تفاءلنا بالفعل وأرسلنا الملفات اللازمة، إلا أننا فوجئنا من أسبوع بفكرة إزالة العوامات وإبلاغنا بإنذارات الإزالة. بالإضافة إلى مطالبتهم بأموال مهولة، فأنا مثلاً مطلوب مني دفع حوالي 900 ألف جنيه، وهناك بعض العوامات مطلوب منها سداد 2 مليون جنيه".

لا يمكن تجاهل الحدث بما يترتب عليه من نتائج، لا تبدو قصص أصحاب العوامات مؤثرة في نظر الأغلبية، نظراً لما تُشير إليه العوامة من رمزية للحياة المرفهة. يبدو الحدث في نظر من لا يعرفون مجرد إزالة لمكان يصلح للسهرات الحميمية أو التجمعات التي تغضب الله، لا يعرف الجميع أن العوامة منزل، أربعة جدران تحمي صاحبها من العيش في الشارع كأي مكان آخر، ربما أسهم في هذه الصورة عشرات الأفلام التي تم تصويرها داخل هذه الأماكن، باعتبارها مكاناً رائقاً لا يمكنه لفت انتباه أحد، ولكنها فجأة لفتت انتباه من دوّن قرارات الإزالة فجأة بلا فرصة للتفاوض، وبلا تعويض، ومن دون أي اعتبار لما يمكن أن يمثله المكان من قيمة لصاحبه، في قرار شديد القسوة ضمن سلسلة قرارات بدأت بمحو الأشجار من الشوارع، ولا يتوقع أحد أنها ستنتهي عند إزالة عوامات الزمالك.

العوامات: تاريخ جديد يمكن محوه

على مدار عشرات السنين تنقلت ملكية العوامات على ضفاف نيل القاهرة، وتقلصت أعدادها. بحسب دراسة الباحث الراحل "عصام فريد"، والتي نُشرت في عام 2010 بعنوان "تاريخ العوامات على نيل المحروسة"، والتي أعاد "باب مصر" و"شهاب طارق" نشرها، فإن عدد العوامات كان يبلغ 500 عوامة قبل أن يتقلص ويصل إلى 65 عوامة، بعدما جاء قرار "زكريا محيي الدين" وزير الداخلية في عام 1966 بنقل العوامات من حي العجوزة إلى منطقة الكيت كات، بسبب حبه للتجديف، وشعوره بضيق نهر النيل في المنطقة التي يمارس فيها رياضته المفضلة! 

هذه المرة لن يحتمل العدد أي تقلص، فبعد سنوات عديدة من قرار جاء لإرضاء أهواء شخصية، وبعدما تكفل الزمن بهلاك عدد كبير من العوامات بسبب إهمال أصحابها أو موتهم أو توقفهم عن الركض للحصول على رخصة تجديد ملكية العوامة، نجد أنفسنا على أعتاب سنوات بلا عوامات على ضفاف نهر النيل، نجد أنفسنا نعاصر كارثة حقيقية تتعلق بعلاقة الإنسان بالمكان وارتباطهم ببعض. منذ سنوات بكى العديد من الناس لتركهم مناطق عشوائية قد لا تصلح فيها الحياة من الأساس بسبب ارتباطهم بالمكان وكأنه مقدس.

بكى العديد من الناس لهدم مقابر ذويهم ونقل رفاتهم لأماكن أخرى، بالرغم من أن الميت لن يضره الهدم، ولكنهم بكوا لأنهم يلجأون لموتاهم هنا، ولأنهم دبروا كل أمورهم على الدفن هنا، وبالرغم من ذلك جاءت القرارات التي لا تعرف قيمة المكان بالنسبة للحي أو الميت.

منذ سنوات ونحن نصرخ ونقول إن قطع الأشجار جريمة في حق كل شيء، في حق الطبيعة، وفي حق التاريخ الذي شهد مرور عشرات السنوات على أشجار عاصرت كل شيء حدث في تاريخنا الحديث، ثم تم نزعها من باطن الأرض ومحوها من شوارعنا وكأنها لم تكن. الآن يأتي الوقت الذي تتحول فيه ضفاف النيل لكتل أسمنتية قبيحة، تصلح لجلب الاستثمارات الضخمة، وبناء المطاعم والكافيهات التي تليق بالعصر البلاستيكي الحالي، عصر الصورة والاستهلاك، حيث قيمة الشيء لا تساوي إلا أموالاً فقط، دون النظر لقيمة كل ما يتم محوه.

لا تمثل العوامات قيمة لأصحابها فقط، بل إنها شاهدة على جلسات أهل الفن والسياسة على مر تاريخها الطويل، في العوامة ولد شاعر النيل حافظ إبراهيم في عام "1872"، وفي عوامة أخرى عاش أديب نوبل "نجيب محفوظ" بعض السنوات، وفي العوامات حيث أوائل القرن العشرين تشكلت 4 حكومات متعاقبة في عوامة المطربة "منيرة المهدية"، وفي عوامات عديدة تم تصوير أفلام مهمة في تاريخ السينما المصرية. 

تبدو قرارات الإزالة والهدم والمحو شيئاً غير مفهوم، في ظل صمت الحكومة تجاه حق المجتمع المدني في معرفة أساس هذه القرارات، لا يمكن لحياة الإنسان أن تكون عبثية لهذا الحد، وكأننا نعيش في إحدى روايات كافكا، حيث ما لا يمكن حدوثه هو فقط الذي يحدث. يبدو النيل مصدراً مهماً لجلب الاستثمارات، ووجهة لا غنى عنها في تصدير صورة إيجابية للقاهرة، كمدينة يمكن تناول الغداء على ضفاف نهرها كأي مدينة عالمية، ولكني أتساءل ما الذي يمكن محوه في المرة القادمة من أجل تقديم صورة كاملة لهذه المدينة التي تتشوه أكثر كلما وُضع بناءٌ جديد فيها، وتتحول للوحة فسيفساء، حيث يتداخل فيها التراثي مع الحداثي بصورة غير لائقة، بالإضافة لوجود مقارنات القديم مقابل الجديد، التي في الغالب تمنح القديم أحقية ليس فقط لما يمثله من قيمة أو مدى ارتباطنا به، ولكن لأنه يتواءم مع بعضه البعض كجزء متصل ومتسلسل مع بعضه، بعكس أي بناء جديد يبرز في القاهرة كنتوء أو جزء مقحم بالصورة. 

أنا عاصرت كل هذا المحو أمام عيني، هل من الممكن أن يتم محوي أنا الآخر!.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيد عبدالحميد
كاتب مقالات وقصص قصيرة
كاتب مقالات وقصص قصيرة
تحميل المزيد