يوماً ما سأهاجر، ولن أعود

عربي بوست
تم النشر: 2022/07/06 الساعة 09:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/06 الساعة 10:01 بتوقيت غرينتش

منذ سنوات قد تشكّل وعيي على ضرورة الرحيل من أي مكان أشعر وكأنه يُقيدني. اعتدت زيارة الأماكن المختلفة وعدم البقاء في أي مكان أكثر مما قد يحتملني هذا المكان. منذ الصغر وأنا أقول لأمي يوماً ما سأهاجر، كتمهيد على اللحظة الحقيقية التي ستشهد حزم أمتعتي من هذا البلد للأبد. ولأن السينما والموسيقى كانا مصدر الإلهام الأبرز، والوسيلة الأكثر مصداقية لمعرفة حيوات من يغادرون أوطاناً ضاقت بهم قبل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي فإن كل ما كانت تنتجه السينما العربية عن حكايات المهاجرين أو المسافرين من أوطانهم إلى أوطان غريبة كانت أشياء مثيرة للإلهام، وعزاء كبير لمن يرون أن الفاشل في وطنه يمكن أن ينجح في أي مكان آخر بسبب اختلاف الظروف مع الكثير من العمل. ولكن على الجانب الآخر، وبالتحديد في الروايات والأفلام الأجنبية وجدت قصصاً مغايرة لأبطال لاحقهم الفشل، وورّطتهم الأقدار في مصائر أسوأ من تلك التي هربوا منها ليحصلوا على العلامة الكاملة في الفشل والألم.

يوماً ما لن أهاجر!

بعد سنوات عديدة تتغير الأفكار ومناظير الرؤية، تتعدد الوجهات وتتشعب العلاقات، وتزداد الجذور التي تُثبتك في مكانك. تكبر، وتعيش قصص الحب الجميلة، وتزداد الصداقات ويزيد عدد الأخوة الذين لا يحملون دماءك ولكنكم تحملون نفس الهم والشقاء معاً، وتحملون سنوات ثقيلة مرت بكم معاً يصعب عليك تركها بسهولة والرحيل لأي مكان لتبدأ من جديد. متى نقرر أن نهاجر! يبدو التعجب من صعوبة السؤال. يهاجر البعض بحثاً عن جنيهات إضافية أو للحصول على العملة الصعبة بطريقة أصعب. يهاجر الشباب والرجال لسنوات في الغربة لتوفير حياة أفضل لذويهم، حياة يكبرون فيها وهم لا يعرفون أي شيء عن من يعاني في بلاد بعيدة يأكله فيها الشعور بالوحدة. قرأت مرة منشوراً على فيس بوك لشاب يحكي عن أسباب عودته من الخارج بالرغم من تنبؤات حصوله على مكانة عالية في مقر عمله الجديد خارج وطنه، كان السبب هو الخوف من الموت وحده. سبب وحيد قد يبدو غير مهم للآخرين قد يدفع المرء للتخلي عن حياة رائعة في مقابل الحصول على موت هادئ. بالرغم من ذلك نجد محاولات البعض المستميتة في الهجرة والحصول على عقود عمل بمبالغ باهظة نابعة من الخوف أيضاً، ولكن من خوف الموت جوعاً وفقراً، في أوطان لم تعد تمنح أي أمل في عيش حياة مقبولة. عرف المصريون الهجرة من بدايات عصور البترول في شبه الجزيرة العربية، انطلقوا وانتشروا في كل البلاد العربية وعاد البعض منهم بأجهزة كهربائية حديثة وعملات تذكارية صغيرة القيمة وآلاف مؤلفة من الجنيهات بعد تحويل قيمتها من ساعات شقاء وإنهاك جسد غير محتمل طوال النهار وبكاء وحنين طيلة الليل على ما تركوه هنا إلى نقود تشتري بيوتاً من عدة طوابق وتُؤمن مستقبل عدد مناسب من أفراد الأسرة. البعض لم يعد إلا بسبب الحروب التي نشبت وتعددت في كل عالمنا العربي، عادوا مجبرين وآسفين على أموال وذكريات لم يتمكنوا من جلبها معهم. ولكن هناك جزء أكبر من الناس لا يجذب انتباه ساردي القصص والحكايات السينمائية، هناك من تشبثت بهم الغربة كما تشبثوا بها في البداية، من قست قلوبهم على أوطانهم الأولى ووجدوا في أرض الهجرة وطناً بديلاً فقرروا البقاء للابد، تزوّجوا وأنجبوا واستقروا كقارب على الشاطئ لم يعد في وسعه خوض المزيد في بحر الحياة. نجد في قصص الغربة غير المرغوب في ظهورها راحة من وجد الحد الأدنى من الأمان في بلد أجنبي لا يمكن البطش فيه بإنسان حتى لو كان غريباً، ولا يمكن أكل الحقوق فيه من رؤساء العمل لوجود طاولة تضع حداً على الجميع. نجد أن البعض فشل في العودة لوطنه والاستقرار من جديد لأنه عرف أن الوطن ليس إلا مكاناً يمكن العيش فيه بصورة شبه آمنة.

مصيدة الغربة

أخاف أن أهاجر لأن لي ناساً يحبوني هنا، يخففون ما لا يمكنني تحمله وحدي من كوارث ومصائب تصيب من حولي في هذا العالم المختل كُلياً. لي أم لا تطيق أن أظل خارج البيت حتى لو اضطررت لذلك بسبب ظروف عملي. لي أصدقاء إذا لم نجتمع على المقهى مرة في الأسبوع لظروف طارئة تسوء حالتنا النفسية حتى موعد اللقاء الجديد في الأسبوع التالي. لي حبيبة نُرتب مواعيد اللقاء كل مرة بالساعة والدقيقة حتى لا نضيّع أي وقت يمكن أن نكون فيه معاً. أذكر أن أمي قالت لي مرة: تسافر وتسيبني! بنبرة صوت لا أنساها منعتني من فتح سيرة السفر أمامها مرة أخرى، بالرغم من ورود الفكرة في دماغي أغلب الوقت مع ارتفاع معدلات الجنون هنا. لا أستطيع التفكير بشكل عقلاني في السفر والهجرة بسبب جملة أمي. أحياناً أريد أن أقول لها سأصاب بالجنون إذا بقيت هنا، ألا ترين كيف نحن محاطين بكل هذا الاختلال والفساد حولنا، ولكني أعرف أن أمي سترد بنفس السؤال: تسافر وتسيبني؟ ترفض صديقتي الأمر، تقول لي أنت تموت من غير حنية، كيف تتحمل نزلة برد في بلاد لست فيها أنا، بينما يقول صديق نعرف بعضنا منذ خمسة عشر عاماً: أنت متقدرش تسافر. لا أملك إجابات لكل تساؤلاتهم عن رغبتي في السفر، كل ما أعرفه هو أنني عالق هنا بوجودي مع من لا يشبهونني، هنا يبررون القتل والتحرش والاغتصاب وغارقون كُلياً في نقاشات دارت في العصور الوسطى وانتهت. أشعر أحياناً بأنني طير يحتاج للهجرة بشكل غريزي للنجاة من الشعور بالخطر، ولكني أخاف من التورط أكثر في الهرب حتى أكبر ولا يعرفني أحبابي. أخاف أن أظل في الخارج أحارب الشعور بالحنين للعودة ولا أعود. أشعر بحاجتي لأصدقائي ولكن لا أنجح في الحفاظ عليهم لانقطاع الود بيننا وبُعد المسافات. أخاف أن أموت وحدي في الغربة وأنا ما زلت أحاول توفير حياة جيدة لأشخاص لا يعرفون شكلي ولا ألمي، لأشخاص لا يعرفون عني إلا أنني رجل هاجر قبل أن يروه ولن يروه لأنه أدمن البقاء في وحدته.

بعودة يا بلادي

يعود البعض من الغربة ويذهب إليها مجدداً، ليخالط هواء مختلفاً عن هواء وطنه، ليس ممزوجاً برائحة الأماكن والذكريات، وربما أكثر نقاءً من ذلك الذي استنشقه في فترة الإجازة بالوطن. 

في الوقت الحالي حينما نتحدث عن الغربة تتألم قلوب من هاجروا من أوطان مسلوبة، تحنّ قلوبهم للسير في شوارع شهدت نشأتهم قبل أن يمسّها الدمار والحرب النابعة من الفتن. كل من هاجروا رغماً عنهم تشكل لهم العودة حلماً يتمنون أن يتحقق. كل من سُرق وطنه ستصبح عودته انتصاراً، وسيصبح كل شيء عاشه في الغربة ذكرى منتهية سيصنع أفضل منها على أرض بلاده من جديد، ولكن من هاجروا بحثاً عن النجاح هل يمكن أن تمثل العودة لهم شيئاً جيداً؟

في عصر الرأسمالية الذي نعيشه لم يفقد كل الناس شعورهم بالانتماء، يبدو الوطن جزءاً من التركيب الجيني للبعض لا يمكن الاستغناء عنه مهما كثرت الأقوال وتعددت الشكاوى. نصرخ في بعض الأحيان ناقدين وضعاً معيناً أو قراراً لا نقبله، ولكننا نعرف أننا لا نفعل ذلك إلا من حبنا في المكان الذي نشأنا فيه. نغضب ونثور لنهدم الفساد، ولكننا لا نقبل أن يهدم المحتل الغريب وطننا. أحياناً لا يهاجر المرء من وطنه بحثاً عن المال فقط، أحياناً يهاجر الناس لأنهم فقدوا الأمل في أن يمنحهم هذا الوطن جزءاً من محبته. يعود المهاجرون أحياناً عند رحيل نظام فاشي أو جلاء احتلال غاشم، ويعود المهاجرون بعدما ينجحون في الحصول على مرادهم من الغربة الذي في الغالب كان يتمثل في أموال تُعين على الحياة في زمن لا يرحم. تنجح الغربة أحياناً في زيادة العلاقة بين المواطن ووطنه. يعود المغترب لوطنه كمن يعود لحضن أمه أو حبيبته. يعود موقناً أن ما نجح به هو فقط إعادة تفعيل مشاعره تجاه من يحبهم، وأحياناً لا يعود أحد بسبب عدم صلاحية الوطن للحياة، أو عدم رحيل النظام الفاشي أو المحتل المغتصب. أحياناً لا يعود أحد لأن الوطن لم يعد يصلح لأن يكون أرض الأحلام، ولأن من هاجر وجد ضالته في أرض جديدة منحته ما يريده. 

لا تتعلق مشاعر الغربة بالخروج من الوطن فقط، أحياناً تنبع الغربة من الوجود بين من لا يفهمونك أو يشعرون بك؛ لذلك أحياناً ينجح البعض في الغربة والسفر، والبعض الآخر ينجحون في العودة لوطنهم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيد عبدالحميد
كاتب مقالات وقصص قصيرة
كاتب مقالات وقصص قصيرة
تحميل المزيد