لا لم يعد الوطن راحةً للمتعَبين.. بين معاناة الغربة ومعانيها

عربي بوست
تم النشر: 2022/07/06 الساعة 11:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/06 الساعة 11:40 بتوقيت غرينتش

كتبت المسودة الأولى لهذه التدوينة قبل نحو ثمانية أشهر، حينها لم تكن الغربة إلا فكرة عابرة، أحضر نفسي وأسرتي لها، وقد طوتها الأيام على أثر الانتقال إلى إسطنبول، ولم أعد إليها على عادتي، ولكن بريداً إلكترونياً من موقع عربي بوست أعاد إحيائها في خاطري، فقد دعاني إلى الكتابة عن "الاغتراب" ضمن مسارات عدة، ومن بينها الذاتي، فأعدت الاطلاع عليها، ووجدت أنها تمثل حالتي حينها، وما تحمله من أفكار مبعثرة صورة مكتوبة عن نفسي وأفكاري، وأنا أنظر -حينها- إلى الاغتراب كفعلٍ للهروب من واقع مرير. واليوم ستكون توطئة لأسجل مشاعري ورؤيتي بعد هذه الأشهر، فإليكم:

لم أعد أذكر في أي مرحلة دراسية مرت معنا هذه العبارة "الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن"، ليست فلسفةً وجودية عميقة، ولكنها عبارةٌ تمثل ما يسببه الفقر من تبعات على نفس من يكابده، فالفقر داء في مجتمعاتنا المعاصرة التي لا تنظر إلى المرء إلا بحسب ما يملك من مال، وما يستطيع إنفاقه على المظاهر والكماليات، والفقر كذلك يدفع المرء إلى الانزواء في هوامش مجتمعية، مختاراً أو مضطراً، خاصة في ظل سيطرة المادة وتلك الحياة المركبة، التي أصبحت هجيناً بين مجتمعاتنا التقليدية وما فيها من نظم وعلاقات عامة، والمجتمعات الحديثة الفردية، وما تعليه من شأن الفرد والاستهلاك. ولكن الفقر تاريخياً، قد كان أبرز الأسباب التي تغرَّبَ الناس فراراً منه، بحثاً عن واقع أفضل، وحياة أكثر كرامة.

وبعيداً عن هذه التصنيفات وذلك التداخل في تركيبة ما نعيشه، أود أن أسجل هنا مجموعةً من التأملات حول معنى "الغربة"، وهي نصوص وأفكار سأحاول العودة إليها بعد حين، لأعاين ما رسخ منها وما ذهب، ما أثرت عليه الغُربة الطوعية القادمة، وهل اغتراب الذات أقسى من غربة الجسد، وهل ما يجيش في صدري الآن سيظل كما هو، أم أن الغربة الحقيقية وتفاصيلها ستحيي في النفس كوامن قد طواها الزمن، وتقدح جذوة المزيد من الأسئلة؟ وبكل تأكيد فالزمن هو الكفيل بالإجابة.

لا أعرف تماماً منذ متى وشعور الاغتراب يتملكني بشدة، فقد ترسخ في ذاتي، أنني لا أُشبه محيطي كثيراً، وأن تفاصيل الاختلاف أكثر من سمات التجانس، ولست هاهنا أدَّعي رفعةً اجتماعية، أو تفوقاً معرفياً -معاذ الله-، أو أي ضربٍ مما يتفاخر فيه الناس، ويريدون أن يختلفوا عن الآخرين عبره، بل ربما هو وليد العزلة الطوعية في السنوات الماضية.

وقد توقفت ملياً عند هذه الحالة، ففي سياق البحث عن الذات ومكانها يظلم المرء محيطه، ويقسو على أقرانه، خاصة أن القواسم المشتركة ليست إلا تصنيفاتٍ نحاول أن ننزلها ضمن سياقات لا يُمكن أن تنطبق على أحد، بل نجعلها ميزاناً لنا وللآخرين، وليس ذلك من القسط في شيء. فلا يُمكن بحالٍ من الأحوال، أن تكون حياتنا الحقيقية شبيهةً بعلاقاتنا في وسائل التواصل، أن ننتخب ما نريد وندع من نستثقل، ففي حياتنا الواقعية لا يمكن تطبيق ذلك "العالم المثالي" بالنسبة لنا، مهما حاولنا رسمه وتجميله.

وعلى الرغم من كل تلك النظرات ودوافع النفس الظاهرة والمضمرة، يظل الاغتراب شعوراً قاسياً لا محالة، وقد فاضلت بين اغتراب الذات ووحدتها في محيطٍ لا يراعيها، ولا يُرعى لها انتباهاً، وبين غربة بين أناسٍ لا يعرفونني، ولكنني أتطلع إلى تحقيق بعض ما آمله بينهم.

وفي الحديث عن الغربة، فنحن في زمنٍ لم يعد البحث عن العمل سبباً وحيداً لها، فهناك من يبحث عن الفرص الأفضل والحياة الأكثر كرامة، وهناك من يبحث عن الحرية، وقد ذاق من الجلاوزة المجرمين ما لاقى، وهناك من يبحث عن المعنى، يريد أن يكتشف المعنى الكامن في كل تصرف وفكرة وصورة، وهناك طالب الشهرة أو العلم أو المال أو الجاه، وكلٌّ يسلك في هذا العالم ما قدَّره الباري عليه.

ولكن أقسى أنواع الغربة، ألا تعود الأوطان قادرة على استيعاب أبنائها، أن نخلع تلك العباءة، ونلوذ بأي مكانٍ آخر يعامل الناس معاملة أكثر آدمية، وكلنا يعرف أنه سيلاقي في غربته من العنصرية والتهجم والصلف ما سيلاقي، ولكننا أمام حالين، ضيق الوطن الذي ما عاد يستوعبنا، وسعة الغربة التي تفتح لنا أيديها –أو هكذا يُخيل إلينا-، وبين الخيارين، نغامر بأنفسنا وأطفالنا، ونخوض رحلةً فيها من حواجز اللغة والفكر والمجتمع ما فيها.

أخيراً، نبحث في ذواتنا عن معاني الوطن، ولكن الوطن هو من يُغرقنا في الغربة، فلم يعد الوطن راحةً للمتعَبين، إذ يحولنا ونحن بين ظهراني أهلنا وأحبابنا إلى كائنات جامدة، نتقوقع المرة تلو الأخرى. ومن مندوحة القول، أن بلادنا تتحول إلى سجونٍ كبرى، فنعود ونقزم أنفسنا في هذا السجن الكبير. وفي البحث عن الذات بين معاناة الغربة ومعانيها، سنبحث عن أجوبتنا في مكانٍ آخر، ونفوسنا بين رجاء إيجاد الوطن، والبحث عن ذواتنا في أماكن أُخرى.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي إبراهيم
كاتب فلسطيني
باحث في مؤسسة القدس الدولية
تحميل المزيد