أثارت نتائج التحقيق الأمريكي في جريمة اغتيال الإعلامية شيرين أبو عاقلة ردود أفعال واسعة، حيث بدت النتائج والخلاصات الأمريكية المتناغمة مع الموقف والتحقيق الإسرائيلي وكأنها تقتل شيرين أبو عاقلة للمرّة الثانية، وبشكل متعمد أيضاً، بعدما فعلت إسرائيل ذلك وحدها في المرة الأولى.
كانت الولايات المتحدة قد مارست ضغوطاً شديدة على السلطة الفلسطينية لتسليمها الرصاصة التي قتلت شيرين، وكالعادة لم تصمد السلطة أمام الضغوط واستسلمت، بعد تمنُّع شكلي ومؤقت، وقامت بتسليمها للولايات المتحدة- عبر المنسق الأمني الجنرال مايكل فينزل- التي قامت بفحصها بشكل مشترك مع عناصر وخبراء جيش الاحتلال، وفي مختبر باليستي إسرائيلي، ولذلك لم يكن غريباً أن تأتي نتائج الفحص متوافقة وحتى متطابقة بين الجانبين.
وزارة الخارجية الأمريكية قالت في خلاصاتها النهائية إن حالة الرصاصة لا تسمح لها بتحديد الجهة التي قامت بإطلاقها، وإنها لا تستطيع الجزم بالطريقة التي قُتلت بها شيرين، مع إشارة خجولة إلى ترجيح أو تقدير المنسق الأمني الجنرال فينزل أن قوات الاحتلال هي من قامت بذلك، إلا أن ذلك تم دون دليل مادي، وتأكيد على عدم تعمّد القيام بذلك، بل نتيجة ظروف تراجيدية خلال عملية عسكرية للجيش الإسرائيلي، كما جاء حرفياً في البيان الأمريكي.
قبل إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عن نتائج التحقيق بساعات كانت إسرائيل قد أعلنت النتائج نفسها تقريباً، ما يعني أنها أُعدت بشكل منسق، حيث زعمت أن لا إمكانية لمطابقة الرصاصة مع السلاح المُستخدم من قِبل الجنود الذين تواجدوا بالمكان، وبالتالي لا يمكن الجزم أو القطع بالجهة التي قامت بإطلاق الرصاص على شيرين، ما أدى إلى استشهادها.
بدت نتائج التحقيق الأمريكي ولا شك مريبة جداً، وواضح أن واشنطن ضغطت للقيام بتحقيق صوري لإغلاق الملف، لا من أجل متابعته والمضي به قدماً حتى جلاء الحقيقة وتحقيق العدالة لشيرين ومحاسبة المسؤولين عن قتلها.
أما الهدف من ذلك فيتمثل في عدم التشويش على زيارة الرئيس جو بايدن للمنطقة، منتصف شهر يوليو/تموز الجاري، خاصة بعد مطالبات نواب ديمقراطيين كثر وبارزين له بعدم تجاهل الملف خلال زيارته، وحثّ الإدارة على إجراء تحقيقها الخاص دفاعاً عما سمّوه المثل الأمريكية وحرية الصحافة، وأيضاً لكون شيرين مواطنة أمريكية.
وبالتالي يمكن الاستنتاج وببساطة أن الإدارة سعت لإزاحة الملف عن جدول أعمال بايدن، منعاً للإحراج والأسئلة، أو مطالبتها بموقف حاسم من الجريمة، والآن بإمكانها الادعاء أنها بذلت ما بوسعها، وقامت بالتعاون مع السلطة وإسرائيل، وأنجزت تحقيقاً فنياً، وتوصلت إلى نتائج وخلاصات نهائية أفادت بعدم الجزم بالجهة المسؤولة عن الجريمة، في إشارة واضحة إلى الرغبة في إغلاق الملف بشكل نهائي.
رغم الإشارة إلى تقدير وترجيح أحد الضباط الأمريكيين أن تكون شيرين قد قتلت من قبل جيش الاحتلال لكن دون القطع والجزم، والتأكيد على أن ذلك تم بشكل غير متعمد، وفي ظروف تراجيدية، إلا أن هذا مجرد تقدير ولا يفيد قانونياً، خاصة أننا أمام تحقيق لم يخرج بنتيجة قاطعة، ما يعني أنه جاء في صالح المتهم الذي يصب الشك قانوناً في مصلحته.
هذا ينقلنا مباشرة إلى السياق الإسرائيلي، حيث لم يكن غريباً الارتياح، بل الاحتفاء بنتائج التحقيق الأمريكي، مع السعي الوقح والانتهازي لاستغلاله إلى أبعد مدى، ليس فقط لتبييض صفحة الاحتلال، وإنما لترويج الرواية الإسرائيلية عما يجري في جنين والضفة الغربية وفلسطين بشكل عام.
من هنا يمكن فهم تصريح رئيس الوزراء يائير لابيد، الذي تضمن أسفاً دعائياً لمقتل شيرين، ولكن مع استثمار نتائج التحقيق لدعم ما سمّاه عمليات جيش الاحتلال ضد الإرهاب، بينما قال مصدر مقرب منه قبل سفره إلى باريس للقاء الرئيس إيمانويل ماكرون في أول جولة خارجية له بعد تسلمه رئاسة الحكومة الانتقالية، إن نتائج التحقيق تفضي إلى مسار حتمي يقتضي إغلاق الملف بشكل نهائي، لصعوبة المضي قدماً، بما في ذلك إجراء تحقيق جنائي من قِبل الشرطة العسكرية لجيش الاحتلال، أو أي جهة قانونية أخرى.
أما وزير الدفاع الجنرال بيني غانتس فذهب أبعد من رئيس وزرائه، وبما أن التحقيق لم يخرج بنتيجة قاطعة، فقد أصرّ غانتس على روايته بتحميل المقاومين المسؤولية عن استشهاد شيرين في قلب وحرف للحقائق، تحديداً لجهة عدم شرعية وجود جيش الاحتلال في جنين أصلاً.
في السياق الفلسطيني واضح أن قيادة السلطة استسلمت للضغوط، وما كان يجب عليها أن تسلّم الرصاصة للجانب الأمريكي، بل أن تقوم بالاطلاع عليها في رام الله بشكل مشترك، خاصة مع تأكيدها على أن الرصاصة بحالة جيدة وهي صالحة بالتأكيد، وبالإمكان مطابقتها مع السلاح المستخدم، إلا أن هذا مجرد موقف عام لم يتم التشبث به أو الدفاع عنه كما ينبغي. بينما خرجت تصريحات دعائية ومريبة أيضاً من مسؤولين وناطقين باسم السلطة، لتبييض صفحتها وتنفيس الغضب في الشارع الفلسطيني.
وعليه لا يمكن استبعاد حدوث صفقة بقيادة أمريكية، وتقديم تعويض أو دعم ما للسلطة، سياسياً واقتصادياً. ومن هنا ربما يمكن فهم الاجتماع اللافت الذي عقد الثلاثاء بين مسؤول وحدة الشؤون الفلسطينية بالسفارة الأمريكية جورج نول ووزير الاقتصاد الفلسطيني خالد العسيلي، لمناقشة الدعم المالي الأمريكي للسلطة.
وعموماً فقد أكدت القضية مرة جديدة حقيقة الانهيار والتآكل في شعبية السلطة وعجزها عن الدفاع عن المصالح والحقوق الفلسطينية.
إضافة إلى ما سبق، ولتوضيح المشهد بكافة أبعاده، لا بد من التذكير بنتائج التحقيق الذي قامت به شبكة الجزيرة، وأكد نوع السلاح الذي أطلقت منه الرصاصة M4، ويستخدمه جيش الاحتلال على نطاق واسع. كما أن تحقيقات مهنية ونزيهة وشفافة قامت بها مؤسسات وأطر إعلامية موثوقة أمريكية تحديداً، مثل صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست ووكالة أسيوشيتد برس وقناة سي إن إن، وخلصت إلى النتيجة نفسها، بل الحقيقة القائلة إن إسرائيل مسؤولة عن الجريمة، وهي التي قتلت شيرين بشكل متعمد، بعدما عرّفت عن نفسها وزملائها كصحفيين، ولتواجدها في اتجاه مختلف عن الاشتباك، ولم يكن بإمكان المقاومين إصابتها أصلاً من أماكن تمركزهم في مخيم جنين.
وعليه إذا كانت السلطة جادة وتنوي فعلاً استعادة مصداقيتها أمام الشارع الفلسطيني فلا بد أن تمضي قدماً في متابعة الملف أمام المحكمة الجنائية الدولية، كما أن عائلة وأصدقاء وزملاء شيرين مطالبون أيضاً بالمضي قدماً في مساعيهم وجهودهم لتحقيق العدالة وجلب حق شيرين، عبر محاسبة ومعاقبة المجرمين المسؤولين عن قتلها بهذا الشكل المتعمد والدموي.
في النهاية، لا بد من الانتباه إلى أننا أمام انحياز أمريكي فجّ متعمد، وغير مفاجئ، إلى جانب إسرائيل، من إدارة بايدن، الذي يعتبر نفسه صهيونياً وفق مقولته الشهيرة "لا حاجة أن تكون يهودياً كي تكون صهيونياً"، وكما يتضح من السياق العام للسياسة الأمريكية المستجدة في المنطقة، التي تبدو وكأنها مجرد تحديث فقط لسياسة دونالد ترامب، بما في ذلك صفقة القرن، ولكن مع نسخ أو تجاوز الجانب الفلسطيني منها، لصالح التأكيد الكلامي والإنشائي على حلّ الدولتين، ودعم وتقوية السلطة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، والتركيز بالمقابل على السياق الإقليمي ومسيرة التطبيع العربي الإسرائيلي، وفق الاتفاقيات الإبراهيمية، لتحقيق أهداف شخصية وحزبية وسياسية للرئيس وحزبه الديمقراطي، وبلاده الولايات المتحدة بشكل عام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.