أراهم من شرفة منزلي القريب من الحدود.. هذا ما يدور بين المهاجرين في اللحظات الأخيرة قبل ركوب البحر

عربي بوست
تم النشر: 2022/07/06 الساعة 11:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/06 الساعة 11:27 بتوقيت غرينتش

في خضم كل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها الشعوب العربية في السنوات الأخيرة، وبالأخص الدول التي عانت الويلات نتيجة الربيع العربي أو الدول المجاورة لها، والتي استطاعت حكومتها لملمة الموضوع والتحكم في الفئة التي حاولت التظاهر للدفاع عن حقوقها، حيث شاهدنا جميعاً الحشد الكبير من شباب وشابات أوطاننا المكلومة تبحث عن طرق قانونية وغير قانونية لمغادرة وطنهم الأم، هرباً من السياسات والأنظمة الفاسدة، ومن الظروف المعيشية القاهرة التي تفتقد لأبسط شروط الحياة الكريمة.

وبعد كل ما حدث من تصادم بين الشعوب والحكومات، إضافة إلى ما كشفته جائحة كوفيد 19 من فشل في إدارة الأزمات، لاحظت نزوح فئة كبيرة جداً تركض نحو الضفة الأخرى لتحظى بحياة هنيئة، لم أستغرب آنذاك من قرار هؤلاء المغلوبين على حالهم، ولم يلفت انتباهي أي من تلك الأسباب التي دفعت بهذا الكم الهائل من الحالمين لاجتياز الحدود نحو الضفة الأوروبية وغيرها من الدول التي تروج لصورة البلاد العظيمة، والتي توفر كامل الحقوق لشعوبها مع نظرات الحزن التي شاهدتها في عيون الشباب الحالمين، ومعهم خيبات الأمل بعدما تم ترحيلهم عنوة من أوطانهم.

وبالرغم من أن الغالبية منهم تعرضوا للأذى في وطنهم الأم، في حين أنهم يمتلكون به سقفاً يؤويهم، ومصدر عيش وإن كان قليلاً فإنه يسد رمقهم، فإنهم مقتنعون بمغامرة الهجرة حتى لو كان شكلها غير قانوني، وحتى لو كانوا سيقامرون بأرواحهم، وكأنّ كل الذي تلقوْه لم يُجدِ نفعاً معهم، فاختاروا الهجرة باحثين عن ملجأ بعيد ينسيهم مرارة الأيام التي واجهوها في بلادهم، يغادرون وليسوا بنادمين، وغير مبالين بالمخاطر التي ستصادفهم في رحلتهم، لأنهم فقدوا كلياً شعور الانتماء لهذه الأوطان، الذي تجده قد تغيَّبَ من قلوبهم البريئة.

ما دفعني للتفكير مليّاً والتمعن في أجسادهم التي توحي لك بأنها الوحيدة الباقية على تراب هذه الأوطان، أما عن أرواحها فقد رحلت منذ زمن إلى بلاد أحلامهم وظلت تنتظر قدومهم.

حينما كنت أشاهد بعضهم وهم يغادرون خلسة محاولين الاختباء من رجال الأمن، بحكم تواجد مسكني بالقرب من الخط البحري الذي يسهل هجرتهم أجد نفسي أنظر لملامحهم المبتسمة التي تعبر عن تلك الطموحات الكبيرة، بعدما كانت تنضج داخلهم وتمنحهم الأمل بالآتي، بأن الأحلام التي زرعت داخلهم لن تتحقق إلا إذا هاجروا، وبالرغم من أن طريقهم كان طويلاً حتى الشاطئ، لكنهم ساروا على أقدامهم وعلامات الرضا والفرح ترتسم على محياهم النحيف الذي خطته التجاعيد، وكأنهم تجاوزوا الثلاثين من عمرهم أو أكثر  بسبب المعاناة التي اضطروا لمجابهتها رغماً عنهم، ومن هول ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهم يدفعون كل ما تبقى لديهم فقط لاجتياز الضفة حتى لو على حساب أرواحهم.

وفي مرة من المرات، وبالضبط بعد فترة الحجر الصحي وبتدهور علاقة هذا البلد مع جارته الأوروبية، مما سهل عليهم ليجربوا حظهم للهجرة، صادفتُ بعضاً ممن لم يحالفهم الحظ أثناء العودة بعدما أفشلت محاولتَهم السلطات، فوجدت تلك الملامح الجميلة التي التقيت بها في طرق المغادرة، اختفت تماماً حينما أرغموا على العودة، ولم يتبقَّ منها سوى نظرات الحسرة، ملامح متعبة، منهكة تماماً، تحمل في خطوط محياهم البريئة سخطاً كبيراً عن كل شيء.

وحينما تسترق السمع حول أحاديثهم تنتابك الرغبة للبكاء لشدة ما تسمعه، منهم من يسب الحظ والبلد الذي فقد حس الانتماء إليه بشكل كلي، ومنهم من وصل صبره إلى منتهاه، فبدأ بلعن الظروف والعائلة، ويتمنى الخلاص من هذه الحياة كي ينعم جسده بالراحة.

ما جعلني بدوري أشعر بالذنب وألومها، فلعلها كانت سبباً فيما يحدث دون دراية، وأتساءل كيف يمكن أن يُقتل الطموح والابتسامة في قلوب شباب في مقتبل العمر مازالوا يتعرفون على ذواتهم؟

شباب مازالوا في عمر الزهور، ومن المفترض أن نجدهم على مقاعد الدراسة يعملون على بناء مستقبلهم، وفي الحدائق يستمتعون بأنشطتهم.

كيف يمكن أن يقتل في قلوب هؤلاء كل أسباب الفرح والأمل بالحياة؟ أين يكمن الخلل حتى وصل أبناؤنا إلى هذا الحد؟ كيف فقد أبناؤنا حس الانتماء واستبدلوه بالكره لأوطانهم؟ وحتى إن كان المجتمع والدول فرطت في الاهتمام بتنشئتهم فأين هم الآباء من كل هذا؟

وكيف يمكن لهؤلاء الآباء التفكير في الإنجاب وإحضارهم لهذه الحياة، وتركهم يتخبطون مع ظروفها بمفردهم، ويتحملون مسؤوليةً تفوق قدراتهم دون تكبد عناء مساعدتهم وتوجيههم.

ولماذا لم يعملوا على توجيههم وتسليحهم بحب هذه الأوطان، حتى لا يظلوا تائهين بين بلدان الآخرين فاقدين لشعور الانتماء الذي يشعر صاحبه بالطمأنينة والأمان؟ وهل من السهل استغلالهم للحصول على حياة أفضل، ولو على حساب أرواحهم؟ كيف يمكن أن يُطلب منهم ذلك والحياة التي قدمت لهم تنتهك أبسط شروط العيش؟ ألا يكفي ما يكابدونه من فاقة كي يتم إرغامهم على العيش مع وجع فقدان الأمل وعدم الانتماء؟ هل استكثرنا عليهم حتى هذا الشعور الذي يمنحهم طاقة التحمل ويتعلقون به كآخر قشة لعل الغد أفضل؟

وما الذي بوسعنا فعله جميعاً لجعل هذا الجيل أشخاصاً حالمين وممتلئين بالطاقة والأمل، لتحقيق طموحاته على أراضي بلاده وبجانب أحبائهم؟ ما الذي يسعنا جميعاً فعله لنستعيد الابتسامة التي افتقدوها جراء معاناتهم اليومية؟ كيف سنعيد له خسائره حتى يعشق هذا الوطن ويحمل مشعل خدمته والمساهمة في تطويره، حتى يصبح كتلك البلدان التي تراود أحلامه وتستفز حاجته بما تقدمه لأبنائها؟

لماذا لا نقدم لهم وسائل العيش الكريم على تراب أوطانهم حتى لا يفقدوا شعور الانتماء، هذا الشعور العظيم الذي يعطي للإنسان الحرية على أراضي وطنه الأم؟ 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أسماء النعيمي
مدونة مغربية
مدونة مغربية
تحميل المزيد