قصته لا تصدَّق، لكنها حقيقية، نفاه في المرة الأولى الحكم الذي ثار عليه، وفي المرة الثانية نفاه الحكم الذي بناه بنفسه. إذا ما ذُكر باسمه الحقيقي "ليف دافيدوفيتش برونشتاين" لا يعرفه أحد، أما إذا ما ذكر باسمه المستعار "ليون تروتسكي" فقليل من لم يسمع بهذا الاسم الذي استعاره من سجانه بعد أن سرق منه أوراقه الثبوتية خلال فراره من السجن.
اغتاله في المكسيك شخص اسمه المستعار "فرانك جاكسون"، الذي ادعى في البداية أنه يساري الهوى، وأنه ابن دبلوماسي بلجيكي ثري، لينكشف سره فيما بعد ويتبين بعد أكثر من عشر سنوات قضاها في السجن لتنفيذ الحكم الذي صدر بحقه في المحكمة المكسيكية بعد اغتياله تروتسكي، أنه إسباني الأصل، واسمه الحقيقي "رامون ميركادير"، حتى إن الفأس الذي استخدمه هذا السفاح في عملية الاغتيال بقي لغزاً، ومن أجل فكّ رموز هذا اللغز احتاج مؤرخ التجسس في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي إيه"، كيث ميلتون، إلى أربعة عقود، حتى وجد هذه الفأس التي استخدمها رامون ميركادير في 20 أغسطس/آب 1940 لاغتيال ليون تروتسكي، وبعد طول بحث وانتظار، حصل ميلتون على ضالته عام 2005، عندما أقرّت آنا أليشا سالاس، وهي ابنة ضابط شرطة مكسيكي سابق، بأنها أخفت الفأس طوال سنوات تحت سريرها. وكانت الفأس التي أبرزتها مطابقة لمواصفات فأس ميركادير، فاشتراها منها ميلتون وضمّها إلى مجموعته.
وتوخياً لمزيد من التحقق، تمكن المؤرخ من الحصول على دليل آخر، بمساعدة طبيب شرعي من وكالة الاستخبارات الأمريكية؛ إذ حصل على البصمات المختلطة بالدم التي تركها ميركادير على أداة الاغتيال، من خلال صور التقطتها الشرطة عام 1940. وهذه الفأس التي تستخدم في تسلق الجبال معروضة اليوم في المتحف العالمي للتجسس في واشنطن.
ولد ليف دافيدوفيتش برونشتاين في جنوب أوكرانيا في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1879، وخلال دراسته في مدينة أوديسا، تم توقيفه ونفيه إلى سيبيريا، وقد ترك وراءه زوجة وطفلين. وفر في 1902 من سيبيريا، ولجأ إلى لندن حاملاً جواز سفر مزوراً باسم تروتسكي، كنية أحد سجانيه السابقين في أوديسا.
في العاصمة البريطانية التقى منفياً آخر هو فلاديمير إيليتش أوليانوف المعروف باسم لينين، وكان ماركسياً مثله، وكان على خلاف معه في البداية، قبل أن يلتحق بالبلاشفة ويقود مع لينين ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 في روسيا.
عاش تروتسكي في عدد من الدول الأوروبية وفي أمريكا الشمالية خلال سنوات نفيه. بعد لندن، انتقل إلى ميونيخ ثم جنيف مع رفيقته الجديدة ناتاليا سيدوفا، التي التقاها في باريس وأصبحت زوجته الثانية.
عندما عاد إلى روسيا في 1905 خلال الثورة الأولى، تولى رئاسة مجلس السوفييت في سان بطرسبرغ. وقد أوقف مجدداً وحكم عليه بالنفي إلى سيبيريا مدى الحياة. فرّ تروتسكي مجدداً ولجأ إلى فيينا وزيورخ وباريس ثم الولايات المتحدة التي التحق منها بالثورة الروسية في 1917. وبعد إقصائه عن السلطة بقرار من منافسه جوزيف ستالين بعد وفاة لينين في 1924، ونفيه من الاتحاد السوفياتي في 1929، ذهب إلى تركيا وفرنسا والنرويج، قبل أن يلجأ إلى المكسيك حيث اغتيل في الستين من عمره.
عندما لجأ تروتسكي إلى المكسيك في 1937 كانت حملات التطهير الستالينية قد بدأت. في 24 مايو/أيار 1940 نجا من محاولة اغتيال عندما فتح كوماندوز النار على منزله في مكسيكو حيث كان يعيش مع زوجته ناتاليا وحفيده إستبان بولكو. وبعد ثلاثة أشهر، مساء 20 أغسطس/آب من العام نفسه، استقبل تروتسكي المدعو فرانك جاكسون الذي نجح في كسب ثقة المحيطين به، وفي إحدى المرات وبينما كان تروتسكي منكباً على مكتبه يقرأ المقال الذي طلب منه القاتل تصحيحه ضربه ميركادير على رأسه بفأس كان قد أخفاها في معطفه، وتوفي تروتسكي في اليوم التالي في إحدى مستشفيات العاصمة المكسيكية.
قبل وفاته عام 1940، كان تروتسكي شاهداً على مقتل عدد مهم من أفراد عائلته على يد ستالين. فأثناء حملة التطهير الكبير، طارد أفراد المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية، المعروفة أكثر بـ"إن كا في دي" (NKVD)، زوجة وأبناء ليون تروتسكي، واقتادوهم نحو السجون قبل محاكمتهم، بشكل صوري، وإعدامهم.
وعقب خسارته لابنته نينا نيفلسون عام 1928 وابنته الثانية زينايدا فولكوفا التي انتحرت ببرلين سنة 1933، فقد ليون تروتسكي عام 1937 ابنه سيرغي في ظروف غامضة بعد أن اعتقلته مفوضية الشعب للشؤون الداخلية، حيث ذكرت تقارير صحيفة أن الأخير قد اقتيد إلى موسكو وأعدم رمياً بالرصاص بعد اتهامه بالتآمر.
وخلال العام التالي، خسر ليون تروتسكي ابنه الآخر ليف سيدوف في منفاه في فرنسا خلال شهر فبراير/شباط 1938 بعد تعرضه لوعكة صحية. والآن ليس هناك أسرار، فقد مرت هذه المؤامرة بعدة مراحل: ستالين، وبيريا، وليونيد إتينغون الجنرال السوفييتي المكلف بتصفية وملاحقة معارضي ستالين في الخارج، وعشيقته كاريداد ميركادير، التي جندت ابنها رامون ميركادير لتنفيذ هذا الاغتيال، هؤلاء هم الذين قتلوا مؤسس الجيش الأحمر ورفيق السلاح مع لينين.
والجدير ذكره أن والدة القاتل، كاريداد ميركادير، مناضلة معروفة في الحزب الاشتراكي الموحد لكاتالونيا، المرتبط بالأممية الشيوعية، استقطبها القائد الستاليني المجري جيرو وأصبحت عَبْرَه عشيقة ليونيد إتينغون الجنرال بالمخابرات الستالينية، والمختص في تصفية الدبلوماسيين السوفييت "المشبوهين".
أما سبب استقرار تروتسكي في المكسيك فيرجع إلى صداقته مع الرسامة فريدا كاهلو وزوجها دييغو ريفيرا اللذين ساعداه في الحصول على اللجوء السياسي من الرئيس المكسيكي الجنرال لازارو كارديناس بمجرد وصوله إلى العاصمة مكسيكو، فعاش تروتسكي في البداية في القصر الذي منحه إياه دييغو ريفيرا وفريدا كاهلو، ثم انتقل إلى المنزل الذي اغتيل فيه في "أفينيدا دي فيينا"، بعد أن انفضحت علاقته الغرامية مع الرسامة الشهيرة فريدا كاهلو.
وطالما أننا نتحدث عن العشق والغرام كان رامون ميركادير قاتل تروتسكي أيضاً عشيق الرفيقة التروتسكية سيلفيا أجيلوف، التي كانت تعمل في مكتب تروتسكي، وبالتالي يبدو أن العشق والنضال إذا ما التقيا تحل الكارثة، لذلك حذارِ أيها المناضل من الأزهار الجميلة خلال نضالك؛ لأن كيدهن عظيم.
ورغم أن المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي قد أدان ستالين شخصياً، لكنه لم يدن أفعاله، بل على العكس تابع الحزب خطوات ستالين خطوة خطوة، حيث منح قاتل تروتسكي رامون ميركادير بعد خروجه من السجن لقب بطل الاتحاد السوفييتي ووشّحه بـ"وسام لينين" ودفنه في موسكو في عام 1978 .
أما عن تروتسكي، الذي أصبح واحداً من ملايين ضحايا ستالين، فقد دفن تحت منصة ضخمة محفورة بمطرقة ومنجل في حديقة منزله في مكسيكو سيتي، وأصبح المنزل الآن متحفاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.