فريضة لها خصوصيتها وأسرارها.. ماذا تعلمت من الحج؟

تم النشر: 2022/07/05 الساعة 09:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/05 الساعة 09:50 بتوقيت غرينتش

عندما حججت أول مرة، كنت شابة قوية ومتحمسة للقيام بأي عبادة، وكنت تواقة للإكثار من العمل الصالح، وأريد أن أجمع ما أستطيعه من الحسنات وأستزيد (من باب: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، فلما قرأت عن العبادة أثناء الحج، وبدأت فعلياً بممارستها وجدتها قليلة، مما أثار عجبي! وبالتالي جالت في بالي عدة خواطر وتمكنتْ مني، وجلست أتأمل فيها وأحاول الوصول للجواب، وكان مما ألحّ عليّ عدة تساؤلات: 

– أليس الحج عبادة لله؟

– وأقرب القربات؟

– والمفروض أنه كله طاعات؟

– فتزيد فيه الأعمال الصالحة؟ وتحلو؟

كانت هذه المقدمة، ثم تبلورت التساؤلات:

1- فعلام إذن نقصر فيه الصلاة؟ وعلام نجمع كل فرضين؟!

2- وعلام يمتنع الحاج عن صوم العشر، وعن صوم يوم عرفة؛ وهو أعظم يوم بالسنة؟!

3- وصحيح أن أعمال الحج كثيرة ومتنوعة، وفيها مشقة: وتنقل بين منى وعرفات ومزدلفة، وفيها سعي وطواف في الحرم بمكة… ولكن العبادات والقربات بمجملها قليلة ومعدودة، فيمكث الحاج- مثلاً- في يوم الحج الأكبر ما لا يقل عن سبع ساعات في "عرفة"، في مكان واحد لا يصنع أي شيء (من العبادات والقربات) سوى الوقوف هناك والمناجاة والدعاء. 

4- وفي مزدلفة، يجلس الحاج ليلة يصلي فيها جمعاً وقصراً، ويقضيها بالنوم! ولا يؤمر بالتهجد ولا بالقيام.

5- وأيام منى أيام أكل وشرب، وليس فيها إلا رمي الجمرات، مع أنها ثلاثة؟! 

فلماذا؟! وماذا يصنع الحاج بالأوقات الفضيلة المتوفرة لديه؟! 

ثم وفيما كنت أقرأ في تفسير سورة الحج، وجدت فيها آية عظيمة، لعل فيها البشرى وفيها الجواب، وهي: "وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ".

وكأن الله سبحانه وتعالى قد خفف من أنواع العبادات على الحاج ليتفرغ العبد للذكر، وإن من أهداف الحج الكبرى "ذكر الله": "وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ"، "فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا".

وإن "الذكر" أكبر العبادات وأعظمها أجراً: "والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً"، ويكون الذكر بالقلب أو باللسان، أو بهما معاً.

ويكون ذكر الله تبارك وتعالى بقراءة القرآن، وبتمجيد الله وتنزيهه وتقديسه وتوحيده، وبقولنا: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر. وبالاستغفار: "وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ". ولذِكر الله فوائد متنوعة وعظيمة تعود على النفس بما يَسُّرها، فهو:

– يطرد الشيطان ويجعله يخنس.

– ويُزيل الغم عن القلب، ويجعل لكل هم مخرجاً.

– وييسر الرزق ويُبارك فيه.

– ويحط الخطايا، وهو سبب لنزول السكينة وحفوف الملائكة. 

والذكر لا يفتقر لشرط الطهارة، لا من الحدث الأكبر ولا من الحدث الأصغر، فيمكن للمرء أن يذكر الله وإن كان جنباً، لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في جميع حالاته، مما ييسر تلك العبادة على الحاج وعلى غيره، فلا يمنع أي مانع من تحصيل الأجر.

والمقصود الذكر الذي يُلين القلب ويذكي الفؤاد ويصل بالنفس للخشوع والخضوع والتفكر، والذي يعلو بالإيمان ويسمو بالنفس.

وإن الذكر هو العمل الوحيد الذي يستطيع المسلم القيام به في كل وقت، خاصة في الحج، فالحج فيه تنقل بين المشاعر، وفيه مشقة مع الحر والزحام، وقد لا يكون المكان المنبسط متوفراً (للإكثار من الصلاة)، وقد يكون الصيام شاقاً على الحاج بسبب شدة الحر، فيكون العمل الصالح المتوفر دائماً وفي كل وقت هو "ذكر الله".  

وإن للحج خصوصية قد لا تكون لأي عبادة أخرى، كونه لا يكون إلا في مكة والمشاعر المقدسة، ويكون- فقط- في أيام معدودات من السنة، فيتفرغ الحاج للذكر، وللتأمل في مخلوقات الله، ويستمتع بتلك الرحلة المقدسة، ويستثمر وقته الفائض بالتعرف على الشعوب والقبائل…

ولأهمية الحج سميت سورة باسمه، وليس في القرآن سورة اسمها "الصلاة" مع أن الصلاة عماد الدين، ولا سورة اسمها "الصيام" وهو ركن من أركان الإسلام، ولكن للحج سورة اسمها "الحج"، وقد فَصّل فيها الله سبحانه وتعالى أحكام الحج وبينها، لأن الحج حدث عظيم، ومؤتمر كبير، لا يكون كل يوم، ولا يحضره المرء كل عام، ويكون مرة في الحياة، فكان لزاماً أن يتفهمه كل مسلم ويستعد له، ويقدر له قدره، ويقوم به على أكمل وجه.

ولا شك أن كثيرين يتمنون الحج ويتوقون له، وتحول بينهم وبينه عوائق كثيرة، ربما على رأسها "ضيق ذات اليد" و"تقنين عدد الحجاج"، وإني أريد أن أبشر هؤلاء بأن أجرهم قد وقع على الله، بدليل الحديث الصحيح: "إنَّ بالمَدِينَةِ لَرِجَالًا ما سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إلَّا كَانُوا معكُمْ؛ حَبَسَهُمُ المَرَضُ. وفي رواية: 

إلَّا شَرِكُوكُمْ في الأجْرِ"، فللنية فضل كبير، والله يكتب الثواب كاملاً لكل نفس منعها العذر، وعلم الله صدقها. فيكتب أجرها وكأنها شهدت المناسك كلها. 

ويمكن لكل نفس مسلمة تحصيل الثواب العظيم من دون حج وعن طريق آخر، وذلك بالإكثار من العمل الصالح في هذا العشر المبارك: "وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ"؛ فما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر. ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء.

 ويستحب في هذه الأيام أي عمل صالح مهما كان، مثل "الذكر" و"قراءة القرآن"، و"القيام" و"الصدقة" و"الصيام العشر كله" أو"صيام يوم عرفة"، فيُكفّر الله به سنة ماضية وسنة آتية ويعتق من النار، بل إن المرء ليثاب بإغاثة الملهوف وإعارة الماعون ويؤجر بالكلمة الطيبة.

ومن الأعمال الصالحة "الأضحية" وهي سُنة مؤكدة: "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين"، والشاة تجزئ عن الرَّجل وأهل بيته، ولو كثُر عددهم، ويشتركون في أجرها. وسميت أضحية اشتقاقاً من وقت الضحى الذي تذبح فيه.

وشرعت توسعة على النفس وأهل البيت، وإكراماً للأقارب والجيران، والإخوان، ومن أجل الصدقة على الفقراء والمساكين. وتكون من بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم، ولا تجزئ من غيرها (فلا تجوز بالدجاج ولا الأرانب).

ويستحب اختيارها خالية من العيوب، وسنها مناسباً، وتُسمَّن. وقال بعض الفقهاء: من أراد أن يضحي يمتنع عن الأخذ من شعره وظفره حتى يذبح (وذلك ليشارك حجاج بيت الله الحرام في محظورات الإحرام)، وقال أبو حنيفة: لا يكره للمضحي حلق الشعر وتقليم الأظافر.

 وما نعرفه أن وقت الذبح بعد صلاة العيد، والحقيقة أنه يمتد إلى نهاية أيام التشريق، لحديث: "كل أيام التشريق أيام ذبح"، ولابد من استقبال القبلة، والتسمية والتكبير، ويستحب أن يذبحها صاحبها، أو يشهد ذبحها، ولا بأس أن يستعين بجزار أو صديق. والأكل منها سنة، "كلوا وادخروا وتصدقوا"، ومع الظروف التي يمر بها المسلمون أفتى الفقهاء بجواز إرسال قيمة الأضحية إلى البلاد الفقيرة لتذبح في أيام العيد، وتقسَّم على فقراء المسلمين، بل لعله أصبح أحسن وأكثر أجراً.

وأختم مقالي بما كتبه أحدهم ينصح المسلمين في هذا العشر، ويرشدهم للأعمال الصالحة في هذا العشر، ويحثهم على الخير، ولكن بطريقة طريفة ولطيفة، حيث جعل نصحه لغير الحاج، وكتبه في نقاط تتماشى تماماً مع مناسك الحج، فقال:

– عليكَِ بنية ضبط اللسان عن المحرمات. 

–  الطواف على الأرحام.

– السعي بحاجات الناس.

–  المبيت بصدر سليم.

– رمي الضغائن.

 – نحر الأضحية.

 – التحلل من الأمانات وحقوق الناس.

ونسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، وكل عام وأنتم جميعاً بخير وعافية، ونسأل الله الفرج والنصرة للأمة الإسلامية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عابدة المؤيد العظم
أستاذة الفقه والشريعة الإسلامية
عابدة المؤيد العظم، مفكرة إسلامية وباحثة في الفقه وقضايا الأسرة
تحميل المزيد