في الأسبوع الأخير من شهر يوليو/تموز عام 2013 جاءني اتصال من الدوحة، وكنت وقتها نائماً، وتليفوني مغلق، وحينما استيقظت اتصلت بمكتب الجزيرة في القاهرة لأعرف ماذا يريدون، فقالوا لي إن شبكة الجزيرة في الدوحة يريدون استضافتك كمحلِّل سياسي، وكنت وقتها رئيس منتدى السياسات والاستراتيجيات البديلة في مصر.
وكان سؤالي لمن اتصل بي من الدوحة، كم من الوقت سأمكث عندكم، فقال أسبوعاً أو عشرة أيام، وألحّ عليّ في الاستعداد للسفر بشكل عاجل، وبالفعل سافرت يوم الخميس الموافق 25 يوليو/تموز 2013، وصادف ذلك النصف الثاني من شهر رمضان المبارك، وكانت هذه أول مرة أذهب إلى الدوحة.
وفي اليوم التالي من وصولي ظهرت على شاشة الجزيرة الإخبارية والجزيرة مباشر، حوالي خمس مرات في يوم الجمعة، محللاً للأحداث في مصر فترة ما بعد الانقلاب العسكري، وأذكر من الذين رأيتهم يمثلون وجهة نظر ضد الانقلاب، في حينها، الأستاذ وائل قنديل الكاتب الصحفي المشهور، والدكتور محمد الجوادي الأستاذ الجامعي والمؤرخ المعروف، والمهندس حاتم عزام نائب رئيس حزب الوسط وقتئذ، والأستاذ محمد عباس الناشط السياسي.
وكان في الجهة المقابلة من الضيوف ممن أيّدوا الانقلاب على الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي، يرحمه الله، أذكر في طليعتهم الأستاذ عماد الدين حسين رئيس تحرير صحيفة الشروق، والدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، والأستاذ سعد هجرس، يرحمه الله، الكاتب المعروف، والأستاذ بشير عبد الفتاح. وتوالى بعد ذلك الضيوف على شبكة الجزيرة من الجانبين ممن يمثلون وجهتي النظر.
وكان ظهوري على شبكة الجزيرة (الإخبارية ومباشر) بشكل يومي في البرامج المختلفة، مثل: "حديث الثورة"، و"المشهد المصري"، و"ما وراء الخبر"، وفي نشرات الأخبار، وخصوصاً بعد توتر الأحداث في مصر، وفض رابعة العدوية والنهضة، وغيرها من الأحداث التي توالت بعد ذلك. ومكثت على ذلك مفنداً الأوضاع من خلال وجهة نظري، واصفاً ما حدث بالانقلاب العسكري مكتمل الأركان.
تهم مُلفقة لا أساس لها
وفي الثاني من سبتمبر/أيلول 2013 فوجئت بالمحامي التابع للأجهزة الأمنية في مصر "سمير صبري"، أنه قدّم ضدي بلاغاً للنائب العام، يتهمني فيه بالتحريض على الجيش، وهذا نصه، كما ورد في صحيفة فيتو الموالية للنظام المصري: "تقدم دكتور سمير صبري، المحامي، ببلاغ إلى النائب العام ضد جمال نصار، رئيس منتدى السياسات والاستراتيجيات البديلة، لتحريضه ضد الجيش والشرطة من خلال ظهوره بصفة مستمرة على قناة الجزيرة مباشر مصر". وقال صبري في بلاغه: إن "نصار حرّض الشعب المصري بكل طوائفه على النزول إلى كل ميادين وشوارع مصر بجميع المحافظات للقضاء على الانقلاب الغاشم، ورداً على مجزرة فض اعتصامي النهضة، ورابعة العدوية" على حد وصفه. وتابع أن نصار "اتهم جهاز الشرطة بقتل المعتصمين بدم بارد من فوق أسطح المنازل، وقنص عدد من الإعلاميين ومراسلي القنوات والصحف لمنعهم من نقل فضائحهم".
وبعد أيام تم فحص البلاغ المقدم ضدي، من قِبل النائب العام المصري وقتها المستشار هشام بركات، وتمّ إدراجي في قضية غرفة عمليات رابعة، وتلفيق العديد من التهم التي لا علاقة لي بها من قريب أو بعيد، منها على سبيل المثال، كما ورد في حيثيات القضية: "أنهم بصفتهم مصريين أذاعوا عمداً أخباراً وبيانات وشائعات كاذبة حول الأوضاع الداخلية للبلاد، بأن بثوا على شبكة الإنترنت وبعض القنوات الفضائية مقاطع فيديو وصوراً وأخباراً كاذبة للإيحاء للرأي العام الخارجي بعدم قدرة النظام القائم على إدارة شؤون البلاد، وكان من شأن ذلك إضعاف هيبة الدولة واعتبارها، والإضرار بالمصلحة القومية للبلاد".
وكان ترتيبي في القضية رقم 19 من إجمالي المتهمين زوراً 51، ومن الغرائب والمضحكة في ذات الوقت أنهم كتبوا بجوار اسمي "هارب"، مع العلم أنني خرجت من مطار القاهرة بشكل طبيعي، واللافت أيضاً أنني لم أشْرف بالحضور في اعتصام "رابعة العدوية"، ولو لدقيقة واحدة.
كل ذلك لأنني عبّرت عن رأيي بشكل مستقل، ووصفت ما حدث في مصر بأنه انقلاب عسكري، أودى بحياة الآلاف من المصريين دون وجه حق، إلا أنهم اعتصموا واعترضوا على ممارسات المجلس العسكري للقوات المسلحة، بقيادة السيسي!
وأذكر أنني حينما علمت بهذا الحكم، وكنت ضيفاً على قناة الجزيرة مباشر، في عام 2014، قلت في حينها: والله لو قطّعوني إرباً إرباً لن أتوانى عن كشف الحقيقة، وتوعية الناس بما يحدث في مصر.
ربما كَمُنت المنن في المحن
بعد أن قضيت ما يقرب من ثلاثة شهور محللاً للأحداث في مصر على شبكة الجزيرة، وبعد اتهامي بالتهم الباطلة سالفة الذكر، عَرضتْ عليّ إدارة شبكة الجزيرة العمل في مركز الجزيرة للدراسات كباحث أول، وكان ذلك بتاريخ (17- 10 – 2013)، ومكثت في المركز لمدة ثلاث سنوات تقريباً، مشرفاً على ملف قضايا، ومنسقاً للحلقات النقاشية في المركز حول قضايا الساعة، باستضافة العديد من الضيوف المتميزين، بعيداً عن تأثير الإعلام، بطريقة تشاتام هاوس "chathamhouse"، وكتابة بعض الأوراق البحثية ذات الصلة باهتماماتي، منها على سبيل المثال: "تطور العلاقات المصرية-الإيرانية ومآلاتها بعد الاتفاق النووي" و"الخطاب الديني بين التجديد والتبديد".
في منتصف عام 2016 انتقلت إلى مدينة إسطنبول في تركيا، وكانت تجربة جديدة، مع أوضاع مختلفة، ولغة جديدة، ومجتمع جديد. ولا شك أن هذا الانتقال كان له أثر كبير عليّ وعلى أسرتي سواء في التعليم بالنسبة للأولاد، أو التعايش مع الأجواء الجديدة، وكذا التعرف على شخصيات جديدة، ولكن الله عز وجل، أعاننا في التأقلم مع هذه الأوضاع بحلوها ومرها.
وفي منتصف شهر مارس 2017 عُينت في معهد الشرق الأوسط كأستاذ مساعد في جامعة سكاريا، وكان التدريس لطلاب الدراسات العليا، مرحلتي (الماجستير والدكتوراة)، وكنت أُدرس بعض المواد منها: الأخلاق السياسية، ومناهج البحث العلمي، وكانت تجربة ثرية بكل المعاني.
ثم انتقلت بعد ذلك في عام 2019 للعمل في جامعة إسطنبول صباح الدين زعيم كأستاذ مشارك للفلسفة والأخلاق والمذاهب الإسلامية، وهذه أجواء أخرى ساهمت بالتعرف على أساتذة العلوم الإسلامية من الإخوة الأتراك، وجنسيات أخرى، وكذا طلاب من مشارب مختلفة وبلدان عديدة، أذكر أنني في مرة حصرت عدد الجنسيات من الطلاب، وجدتها 13 جنسية متنوعة، خصوصاً من آسيا وأفريقيا.
ومن حصاد الغربة الفكري، أنني انتهيت من نشر العديد من مؤلفاتي؛ منها:
- "السنن الإلهية ودورها في البناء الحضاري للأمة"، دار الأصول العلمية، اسطنبول، 2017.
- "الوجيز في تاريخ الفكر السياسي"، دار الأصول العلمية، اسطنبول، 2017.
- "سؤال الأخلاق في فقه وفكر أبي حنيفة النعمان – محمد الغزالي – يوسف القرضاوي"، دار الأصول العلمية، اسطنبول، 2019.
- "الأخلاق بين الإسلام والمذاهب والأديان القديمة"، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، الطبعة الأولى، 2021.
- "العسكر والديمقراطية ومستقبل مصر"، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، الطبعة الأولى، 1442 – 2021.
- "ثورة يناير المصرية وآفاق التغيير.. أحداث كاشفة"، بصدد نشره في مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر.
والمشاركة في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية الدولية، بأوراق بحثية، والكتابة في العديد من الصحف، والمجلات، والمواقع على شبكة الانترنت، حول القضايا العربية والإسلامية والدولية.
والخلاصة: أن هذه التغيرات التي تطرأ على حياة الإنسان، هي بتقدير من الله عز وجل، فلم أكن أتوقع في يوم من الأيام أن أغادر بلدي، ولا أستطيع العودة إليه مرة أخرى، بسبب ظلم الظالمين، ولكن حسبي أن يكون ذلك هجرة في سبيله، ومرضاته، من أجل إعلاء كلمة الحق وتبليغها، مهما كلف ذلك من تضحيات واتهامات زائفة.
ومع معاناة الغربة والبعد عن الأهل والأحباب، إلا أن الأمل في الله كبير، أن تعود مصر إلى سيرتها الأولى، ويزول الظلم الذي عمّ البلاد والعباد قريباً.
هذه بعض السطور التي تعبّر عن تجربة جديدة في الحياة، لم تكن باختياري، ولكنها بترتيب من الله، وأسأل الله أن يعينني على نصرة الحق وأهله، والسعي في التغيير للأفضل. فمصرنا تحتاج إلينا جميعاً، ولكن تحجبنا عنها ممارسات الظالمين المستبدين، وتعنتهم.
وحسبي في كل ذلك قول الشاعر الباكستاني المسلم محمد إقبال: المسلم كالشمس إذا غرب في مكان أشرق في مكان آخر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.