من كتب التراث العربي، التي تتسم بالجدة والغرابة في موضوعها، كتاب "المقامات" لبديع الزمان الهمذاني، وفضلاً عن كونه كتاباً يُدشن لفن أدبي جديد لم تَعهده المُدونة الأدبية العربية من قبل؛ فإنه يؤشر وبوضوح لظاهرة سلبية برزت في المجتمع الإسلامي حينها، وهي ظاهرة تردي الواقع الثقافي بشكل عام، والتي أدت بالكثير من الشعراء والكُتّاب الى أن يتحولوا إلى أشباه متسولين وأشخاص ميالين إلى الهزل والعبث؛ إذ إن الهمذاني، وبوصفه أديباً كاتباً، لم يكن يرصد الواقع المأزوم في كتابه من منظار الأديب الحالم بقدر ما كان يأخذ دور الناقد البصير الذي يستخدم أسلوباً ساخراً أشبه ما يكون بالكوميديا السوداء.
تتلخص المقامات في سرد حكايات الراوي، الذي هو عيسى بن هشام، وهو يجوب أنحاء العالم الإسلامي من شيراز حتى بغداد فالموصل وحلب وغيرها من الحواضر، وفي كل مرة وفي كل موطن كان يصادف بطل المقامات أبا الفتح الإسكندري، والإسكندري كما تظهره لنا المقامات رجل أديب فصيح من أهل العلم والأدب، ودائماً ما يُبهر سامعيه بما يمتلكه من ثقافة، ولكنه مع ذلك يتخذ من الكدية والتسول مهنة، ويؤثر أن يظهر بمظهر المستجدي، فتارة نراه بهيئة واعظ محتال، وتارة بمظهر التاجر الذي خسر تجارته، وتارة أخرى بمظهر ابن السبيل المنقطع عن أهله وذويه، وهو في كل مرة يحاول العبث واستغفال الناس وأخذ دنانيرهم، إما باستدرار عطفهم، أو بالاحتيال عليهم!
ودائماً ما يستغرب عيسى بن هشام من تصرفات أبي الفتح؛ فيجيبه بما معناه أن هذا الزمان يتطلب التقلب في هذه الأحوال؛ فهو زمن هزل ومجون لا زمن رزانة وعقلانية، ويخاطبُ عيسى بن هشام في المقامة القريضية ببيتين من الشعر يقول فيهما:
ويحك هذا الزمان زور *** فلا يغرنك الغرور
لا تلـتزم حالة ولكـن *** دُر بالليالي كما تدور
وإذا ما عرفنا أن الزمن الذي عاش فيه الهمذاني (ت398هـ) هو زمن تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية بسبب ضعف مركز الخلافة العباسية في بغداد؛ فإننا ندرك تماماً سبب لجوء أبي الفتح لهذه الأساليب، وكأنه أدرك بعد طول نظر أن الهزل لا الجد هو السبيل لتحقيق الكسب المادي في زمن الضياع الثقافي والتردي المعرفي!
وهذا الموضوع يقودنا بالضرورة لتأمل واقع "السوشيال ميديا" العربية في الوقت الراهن، بوصفها الانعكاس الطبيعي لحال المجتمعات العربية ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، ولن يجد المتابع صعوبة في ملاحظة أن المحتوى التافه أو عديم القيمة والنفع هو الذي يرتقي القمة عادة ويمتطي "الترند"، غير أننا لا نعدم في ذات الوقت وجود أفراد ومنصات يعكفون على تقديم المحتوى الهادف ذي الأفكار الرائدة، ولكنهم، أي ذوي المحتوى الهادف، غالباً ما يمثلون الهامش الذي يقبع في القاع، بينما يكون التقدم واحتكار القمة للفئة الأولى حصراً!
وقد يقول قائل إن ما نسميه بعصر التفاهة هو ظاهرة عامة "عالمية" تتجاوز حدود بلداننا العربية، وهذا صحيح من حيث المبدأ، ولكن ينبغي الانتباه لملاحظة على قدر بالغ من الأهمية، وهي أن المحتوى "التافه" في البلدان المستقرة سياسياً واقتصادياً وثقافياً يمثل مستراحاً ذهنياً من عبء الحياة العملية العقلانية؛ فهذا المحتوى يمثل فترة النقاهة والعبث، بعكس البلدان التي يتسم واقعها السياسي والاجتماعي بالتأزم، فيأتي هذا المحتوى ليكون انعكاساً لأزمات المجتمع، ويتجاوز حد كونه مستراحاً ذهنياً ليمثل المتن الفكري للحياة الثقافية بصورة عامة!
ومما أثار انتباهي أن بعض صُنّاع المحتوى الذي يُصنف عادة بالتافه لديهم إمكانية تحويل محتواهم لمحتوى هادف ذي قيمة فكرية وثقافية، ولكنهم وربما بسبب مقصود يتعمدون الاستمرار في صناعة وإنتاج المحتوى العبثي، وكأنهم أدركوا متطلبات العصر، واستوعبوا مقولة أبي الفتح الإسكندري آنفة الذكر: ويحك هذا الزمان زور!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.