بدستوره الجديد راوغ قيس سعيّد العلمانيين والإسلاميين على حدٍ سواء فيما يخص جدل الهوية، مسجلاً لصالحه نقاطاً على حساب الجانبين بما أنّه خالف مسوّدة دستور اللجنة ذات المكوّن اليساري – العلماني التي قصرت ذكر "تعلّق الشعب بتعاليم الإسلام ومقاصده المتّسمة بالتفتّح والاعتدال"، في التوطئة، وجعلت ذلك في فقرة تلي "التمسّك بالقيم الإنسانيّة"، أي إنّ هذه الأخيرة تعلو ترتيباً وتراتباً فقرة "التعلّق بتعاليم الإسلام".
وعن قصد وسابقيّة إضمار لم تحوِ المسّودة ذكراً للإسلام في الفصول، بغرض إفراغ مسألة الهويّة من جانبها القانونيّ كما صرّح رئيس اللجنة، الصادق بلعيد.
والنيّة بالطبع تعبيد الطريق لتشريعات مثيرة للجدل بخصوص المساواة في الميراث وربما المثليّة الجنسية مستقبلاً، وغيرها مما يتنافى مع أحكام الإسلام ويمسّ هويّة الشعب التونسي.
فيما جاء دستور سعيّد ناصاً في توطئته كما في فصوله على ارتباط الشعب التونسي بالإسلام بشكل أثبط تدبير العلمانيين، لكن مع تغيير كبيرٍ مسّ الفصل الأوّل محلّ الجدل الذي استعد الإسلاميّون لاتخاذ إلغائه كـ"قميص عثمان" في حملتهم القائمة ضد انقلاب سعيّد ودستوره، بيد أنّ سعيّد لم يلغه، وإن أزال ذكر "الإسلام دينها"، بل فرّق حبره بين التوطئة والفصول، وعوّمه إلى حدّ ما بين أنّ الشعب، حسب التوطئة، "متمسّك بالأبعاد الإنسانيّة للدين الإسلامي"، وفصلٍ خامس يضع تونس جزءاً من الأمّة الإسلاميّة، ويشير إلى احتكار الدولة العمل على "تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف" في صياغة يمكن أن تنفتح على تأويلات عديدة، وقد أثارت جدلاً وحبراً كثيراً منذ نشر مشروع الدستور، إلى جانب استنكار وتبرّم اليسار من نص الفصل الرابع والأربعين على أنّ الدولة تعمل في التعليم على "تأصيل الناشئة في هويّتها العربيّة الإسلاميّة"، هذا علاوة على ذكر انتماء تونس إلى الأمّة العربيّة في التوطئة والفصل السادس، بما يقطع طريقاً آخر أمام هذه الفئة بميولها التغريبيّة وهرطقتها الانفصاليّة.
إنّ هذا السخط اليساريّ وتبرُّؤ أعضاء اللجنة من أن يكونوا صاغوا مشروع الدستور، الذي رجّحتُ منذ البداية أنّه مكتوب جاهز، لا ينفي وجود مدخل عبر المتناقضات لإعادة إثارة مسألة المساواة في الميراث، على سبيل المثال، اعتماداً على الفصل الثالث والعشرين (وغيره) الذي ينصّ على تساوي المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات، وأنّهم سواء أمام القانون دون أيّ تمييز، في نصّ يحمل من الوضوح والصراحة ما لم يُكفَل للإسلام وأحكامه، خصوصاً إذا قارنّاه بما نصّ عليه الفصل الأوّل في دستورَي 1959 و2014 بأنّ الإسلام دين الدولة. لكن بوجود سعيّد في الحكم فإن الأمر من المحال بما أنّ موقفه محسوم بالرفض للمساواة.
وإذا عرّجنا أخيراً في مسألة الهويّة على جعل سعيّد الإسلام ديناً للأمّة لا للدولة، فإنّ للرجل محاضرة في هذا الموضوع بعنوان "الإسلام دينها" سنة 2018 يطرح فيها حججاً لغويّة وتاريخيّة يرتكز فيها، في مثال العالم العربيّ في العصور الحديثة، على أنّ النص في الدساتير بأنّ الإسلام دين الدولة كان بأثرٍ أو توجيهات غربيّة، وقد استشهد بمثال دستور مصر لسنة 1923؛ حيث نصّ بتوجيه من المندوب السامي البريطاني على أنّ الإسلام دين الدولة، ليس حبّاً في الإسلام بل لقطع الطريق أمام الفكر الماركسي، حسب قول سعيّد، الذي يخلص إلى أنّ "الإسلام لا يمكن إلّا أن يكون دين الأمّة ليس دين الدولة، على الرغم من كلّ المحاولات لحصر الأمّة داخل حدود الدولة في الفكر السياسيّ الغربيّ".
فيما الرأي عندي، بغير إلمام وتفقّه، أنّ الشعب المكون الأساسيّ للدولة، وبالتالي فالدولة تدين بدينه وكذا دَيْدَن الدول، وأنّ أوّل مثال في عالمنا الإسلاميّ لاعتبار الإسلام ديناً للدولة لا يقتصر على العصر الحديث والأثر الغربيّ، بل يرجع للقرن الثاني للهجرة بظهور المصطلح الفقهيّ دار الإسلام (كما دار الكفر ودار العهد)، والدار في تعبير الفقهاء هنا هي ما يُصطَلح عليه الآن بالدولة، وحسب جمهور الفقهاء فدار الإسلام (أو دولة الإسلام) هي التي تجري عليها أحكام الإسلام. كما أنّ النص على أن "الإسلام دينها" يكتسي الوضوح والدقّة التي تلزَم النصّ القانونيّ، عوض تفريق الحبر والتعويم بين "الأبعاد الإنسانيّة للدين الإسلاميّ" و"تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف" بما يمكن أن يجرّ من تأويلات.
وإذا تجاوزنا جدل الهوية القائم رغم أهميّته ومركزيّته التأسيسيّة فإنّ دستور سعيّد يخوّل التحوّل إلى نظام سياسيّ رئاسيّ بصلاحيّات تحمل جانباً من الإطلاق بغياب ما يحيل على محاسبة رئيس الجمهوريّة، فكأنّما القول استئناساً بالتوطئة: نحن الشعب التونسي صاحب السيادة ننتخب رئيساً لا تكون لنا عليه رقابة ولا سيادة.
وهذا ما سيخوض فيه الإسلاميون واليساريّون للقدح في الدستور بعد أن خسر الجانبان معركة الهويّة لصالح سعيّد، ولن يكون لهما صدى شعبيّ. فاليسار العلماني بطبعه فاقد الصدى بسبب معاداته هويّة الشعب، والإسلاميّون فقدوا مُرتَكز الهويّة، "قميص عثمان"، وأيّ كلام لهم في الشأن الاقتصاديّ أو النظام السياسيّ، مجروح وغير مسموع.
أمّا الشعب فبعد عقد من الفوضى وعجز القوى السياسيّة عن الإنجاز وإخلافها الوعود، فإنّه يبحث عن قوّة قادرة على الإنجاز وضمان الاستقرار، ولا يرى ضيراً في أن تكون جامعة للسُلطات مُطلَقَة اليد.
حريّ بالذكر أنّ سعيّد من خلال هذا الاستفتاء على الدستور يهدف إلى ما يجّدد به شرعيّته ويضفي مشروعيّة على خرقه دستور 2014 وانقلابه في 25 يوليو/تموز، فبعد أن أُحبط مسعاه ذاك بفشل الاستشارة التي عرفت إقبالاً جدّ هزيل عزاه إلى تعلّة عراقيل إلكترونيّة، هو الآن ينشد إقراراً وبيعة عامّة أو شعبيّة، تنصبه ملكاً، من خلال تضمين ما يسميه "تصحيح مسار" لتوصيف إجراءات وانقلاب 25 يوليو/تموز في فقرتين من توطئة دستوره الجديد. أي إنّ هذا الاستفتاء ضمنيّاً، إذا اقتبسنا قول قيس سعيّد نفسه في 2013: "يتحوّل، لا إلى استفتاء حول مشروع الدستور، ولكن حول صاحب المشروع"، في "نوع من الانتخاب غير المعلن" و"إضفاء مشروعيّة على الجهة التي قامت بوضع هذا النصّ".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.