شاب من نسل الرسول باعها لتاجر كشميري.. يوم “احترقت” الهند بسبب شعيرات النبي محمد!

عدد القراءات
832
عربي بوست
تم النشر: 2022/07/04 الساعة 13:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/04 الساعة 13:00 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية / عربي بوست

لا يُمكن التطرٌّق إلى تاريخ المسلمين في الهند دون المرور بضريح "حضرة بال"، الذي يُعدُّ أحد أهم النماذج المعمارية الكاشفة عن حجم تعلُّق المسلمين الأسطوري بشخص الرسول.

تظهر روح التبجيل التي أضفاها مسلمو الهند على ذلك الضريح من اسمه والذي يعني "المكان المحترم" أو "المكان المقدّس". أصبح ذلك المكان وِجهة أساسية لمسلمي كشمير- حيث يقع الضريح- يحتشدون في ساحته الواسعة للصلاة، وأشعلوا المظاهرات الواحدة تلو الأخرى ضد حكومة الهند دفاعاً عنه، لذا اعتبر الدبلوماسيون الأجانب زيارته طقساً أساسياً للتعرُّف على ثقافة البلاد الإسلامية.

فما قصة ذلك الضريح؟ ولماذا يصفه الكثيرون بأنه "كعبة المسلمين في الهند"؟

ضريح حضرة بال
ضريح "حضرة بال"

وصول شعر النبي إلى الهند

القصة الكلاسيكية التي ترويها مصادر التاريخ الهندية، أن شخصاً من نسل الرسول يُدعى سيد عبد الله غادر المدينة المنورة عام 1635م إثر خلافٍ وقع مع الخليفة العثماني، واستقرّ في مدينة بيجابور التي تقع جنوب الهند، وهناك أعلن أنه يمتلك عدة شعيرات من النبي. وعقب وفاة سيد عاشت عائلته ضنكاً كبيراً اضطر بسببه نجله سيد لبيع الشعرة النبوية إلى رجل الأعمال الكشميري نور الدين إشاي مقابل الوفاء بديون العائلة.

ظلّت الشعرة تحت عناية إشاي حتى مات فأصبحت ابنته "بيجوم" هي المسؤولة عن العناية بالأثر النبوي، وهي التي أنشأت الضريح في مدينة سرينجار عاصمة إقليم كشمير، وأوصت أن يهب أحفادها الذكور حياتهم من أجل المحافظة على "المكان المحترم"، الذي أوُدعت فيه الشعيرات المقدّسة داخل علبة زجاجية حُفظت في إحدى الغرف التي لا تُفتح أبداً إلا في مناسباتٍ مُحددة.

الأحفاد المنحدرون من عائلة "بنداي" يتناوبون على العناية بالضريح حتى الآن، ويتولّى كبيرهم عرض الآثار المقدّسة على عوام المسلمين في المناسبات الدينية الكبرى، مثل المولد النبوي وشهر رمضان. وحالياً يرعى الضريح الإخوة الثلاثة منصور وإسحاق ومحيي الدين بنداي.

بضميرٍ مستريح لا يُمكنني الاطمئنان أبداً إلى صحة قصة وصول الشعيرات إلى الهند، ربما كان لها قصة مُفسِّرة أخرى أكثر صحة لم تصلنا، لكنها على الأقل تتقاطع- من بعيد- مع ما رُوي في التاريخ الإسلامي عن احتفاء صحابة الرسول بشعر النبي وتبرُّكهم به.

أشهر تلك الوقائع ما جرى خلال حجة الوداع، وبعدما فرغ النبي من أداء مناسك الحج، حضر الحلاّق ليقص شعره، فتكالب الناس ليظفروا ببعضٍ من شعر الرسول. يُروَى أن أبا طلحة الأنصاري جمع الشعر ومضى يوزّعه من بين الناس بالعدل.

أحد هؤلاء كان الصحابي الشهير خالد بن الوليد، الذي كان يضع شعرة النبي في مُقدِّمة قلنسوته ويتبارَك بخوض المعارك بها، وأيضاً الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان الذي أوصى بأنه- حال وفاته- تُوضع شعيرات النبي في عينيه وأنفه ثم تُدفن معه.

قد يكون لهذه القصة أثر في ظهور النسخة الهندية منها في محاولة لتبرير قطع شعيرات النبي تلك المسافة الطويلة من المدينة إلى كشمير.

رغم هذا، تبقى الحقيقة الدامغة أن شعيراتٍ ما أمامنا تحظى بمكانة مقدّسة في الهند، جعلت مسلمي ذلك البلد على استعدادٍ للموت من أجلها.

ظهرت تلك المكانة مع اللحظات الأولى لوصول الشعيرات النبوية إلى كشمير، بعدما حرص معاصرو تلك الأحداث على تخليدها ورووا كمّ الإجلال والاحتفاء الذي لاحَق ذلك الحدث، بعدما تجمهر آلاف المسلمين وراحوا يبكون ويتضرّعون إلى الله بالدعاء خلال مرور الشعيرات محفوظة في قالب زجاجي أمامي. هذه اللحظة خلّدها الشاعر الصوفي الهندي ميرزا قلاندر باغ (Mirza Qalandar Baig) قائلاً إن كشمير اليوم تحوّلت إلى "المدينة المنوّرة"، كما حكى أن الإمبراطور المغولي تأكد من قُدسية الشعرة عبر عدة اختبارات "عرّضها للشمس فلم تُلقِ بأي ظل، ثم عرّضها للنار فلم تحترق، وأخيراً وضعها في قدرٍ من العسل فلم تتجمّع حولها أي حشرة".

وعلى ضفاف تلك القصة، تعلّق الكشميريون بأسطورة شعبية أخرى- غير صحيحة بكل تأكيد- وهي أن الله خلال رحلة الإسراء والمعراج أخبر النبي أن شعرة واحدة منه أفضل من أجنحة جبريل الـ600، وهو ما أضفى دلالة هائلة القُدسية على الشعيرات النبوية الكائنة في الضريح الهندي.

وهكذا تراكمت الأساطير الدينية الواحدة تلو الأخرى حتى صنعت مكانة دينية للضريح تضاري كعبة مكة.

ضريح حضرة بال
ضريح "حضرة بال"

الإسلام بنكهة هندية

حسبما يقول الباحث بيرزادا أمين (Pirzada M. Amin) في أطروحته "الفهم النفسي لزيارة الأضرحة في أوقات النزاع: حالة ضريح (حضرة بال) نموذجاً"، إن الهند عرفت طقوس السفر الديني طوال تاريخها الطويل مع الأديان كأحد شروط تحقيق "النيرفانا الروحية"، وهو الأمر الذي ظهر مع الديانة البوذية والهندوسية، وعندما انتشر الإسلام في الهند لم يستطِع مقاومة امتصاص هذه التأثيرات.

كان الهنود المسلمون في حاجة إلى أماكن محلية مقدّسة يزورونها ويتبرّكون بها في ظِل بُعد الجزيرة العربية عليهم وعدم قُدرتهم على زيارتها باستمرار. هنا ظهرت الأضرحة كحل وسط لهذه المشكلة، وشكّلت الأضرحة رابطاً وصل مسلمي الهند بميراث النبي ولو عبر شعيرات مشكوك في صحة نسبها إليه.

وهو ما يتّضح في المقارنة التي عقدها الكاتب الصحفي هاريندر باوجا في مقالٍ كتبه عام 1993م اعتبر فيه أن الضريح يمثّل قيمة المعبد الذهبي عند السيخ، وهو أحد أقدم المواقع المقدّسة للسيخ في الهند.

يقول أمين في أطروحته: امتلك الضريح قوة مغناطيسية جذبت اهتماماً جماهيرياً غفيراً، فلجأ إليه المرضى والضعفاء والمكفوفون والضعفاء.

وهنا لا يُمكن إغفال الخلفية الاجتماعية التي عاشها الضريح في إقليم كشمير الذي شهد نزاعاً دمويّاً بين المسلمين والهندوس على إثر تنازع الهند وباكستان عليه وعلى وقع تراشق أكبر بين الدولتين وصلت فيه النعرات الطائفية؛ الإسلامية والهندوسية إلى أقصى درجة. أسفر هذا الصراع عن مذابح وهجرات جماعية وانهيار اقتصادي، ولم يعد بإمكان مسلمي تلك المنطقة التهوين عن أنفسهم بأي شكل إلا باللجوء إلى الضريح الذي بقي صامداً في وجه هذه الأزمات المتتالية قادراً على منح اللاجئين إليه أملاً بإمكانية تحسين حياتهم.

اعتُبرت العناية بالضريح والتبجُّل به رمزاً لاحترام الهنود المسلمين لرسولهم، وهو ما يفسّر المكانة الهائلة التي حظي بها "حضرة بال" في نفوسهم حتى الآن.

لذا اعتنى بعمارته الملوك المغول المسلمون خلال حُكمهم للهند، أمر الإمبراطور شاه جهان بتحويل مقر استضافة شعيرات النبي إلى مكانٍ للصلاة عام 1634م ثم أُضيفت عليه بعض التحسينات عام 1699م، أما البناء الحالي فهو مزيج من العمارة الكشميرية والمغولية، أشرف عليه صندوق الأوقاف الإسلامي، وبدأت أعماله في 1968م واكتملت في 1979م.

يوم احترقت الهند بسبب شعيرات النبي

ضريح حضرة بال

في يوم 27 ديسمبر/كانون الأول عام 1963م اختفت "الشعرات المقدسة" فجأة من الضريح، وهي الفِعلة التي أثارت غضباً عارماً بين المسلمين فنظموا مظاهرات جارفة في أنحاء البلاد، ما اضطر رئيس الوزراء الهندي- حينها- جواهر لال نهرو للظهور في خطابٍ رسمي ناشد فيه اللصوص إعادة المسروقات إلى مكانها، كما أمر بتعيين فريق تحقيق خاص بحقّ هذه الجريمة.

كما خضعت تلك الأزمة العويصة للنقاش تحت قبة البرلمان الهندي لبحث أسبابها وعواقبها.

خلال التحقيقات لم يتوقف غضب المسلمين، فوقعت أعمال شغبٍ طائفية في ولايات مات فيها عشرات الضحايا من المسلمين والهندوس. غليانٌ استمرَّ حتى بعدما أطلق نهرو سراح الزعيم الكشميري الشيخ عبد الله الذي كان مسجوناً لـ10 سنوات بسبب نزعته الانفصالية، كما أعلن رئيس وزراء كشمير "خواجة شمس الدين" استقالته من منصبه لصالح "غلام محمد صادق"، الذي استمرَّ حتى مات عام 1971م.

ولم تهدأ الاوضاع إلا بعدما أعلنت أجهزة الأمن الهندية العثور على الشعرات وإعادتها إلى مكانها في 4 يناير/كانون الثاني عام 1964م.

الغريب أن الكشميريين لم ينسبوا إلى الشرطة الهندية فضلاً في إعادة الشعيرات، وإنما اعتبروا عودتها السريعة واحدة من معجزات النبي التي لا تنتهي.

حضرة بال.. ملخص أزمة كشمير

لم ينفصل الضريح عن واقع كشمير السياسي، بعدما انفصل المسلمون عن الهند وأسّسوا دولة باكستان قبل أن تتنازعا لاحقاً على إقليم كشمير وخاضتا حروباً عدة انتهت بتقسيمه، ظلَّ الضريح تحت السيطرة الهندية لكنه لم يغِب أبداً عن أنظار أعدائها رمزاً لرفض حُكم الهنود غير المسلمين له.

فتكرّرت وقائع لجوء مسلحين مسلمين انفصاليين إلى الضريح وإعلانهم منه رفض تبعية أي جزء من إقليم من كشمير لها. في 1993م فرض إسلاميون كشميريون سيطرتهم على الضريح فضرَبَ الجيش الهندي حصاراً حوله لمنعهم من استغلال ذلك الحدث لجذب المزيد من الأتباع إليهم، وهو ما تسبّب في أزمة دولية زادت من احتقان المشهد الكشميري.

وبسبب قداسة الضريح فإن الجيش الهندي وقف عاجزاً عن اقتحامه، ولم يبقَ أمامه إلا إجراء مفاوضات مضنية مع المحاصرين لإقناعهم بتسليم أنفسهم في ظل التعليمات المُشددة بعدم إطلاق النار أو إراقة الدماء داخل الضريح مهما حدث.

ازداد الوضع سوءاً حينما دعت منظمات إسلامية للتظاهر حول الضريح دعماً للمسلحين فتصدّى لهم الجيش الهندي وأوقع منهم عدة قتلى فاشتعلت مظاهرات أكبر ضد القوى الأمنية الهندية.

في هذه الأجواء الصعبة، استعانت الهند بأحد كوادرها المسلمين هو "وجهة حبيب الله" رئيس اللجنة الوطنية للأقليات، الذي خاض مع المسلّحين مفاوضات صعبة انتهت بخروجهم من الضريح مقابل التعهُّد بعدم ملاحقتهم، ما اعتُبر نصراً للانفصاليين على الدولة الهندية.

هذه الأحداث الدرامية أثبتت للانفصاليين الإسلاميين مدى تخوُّف الهنود من مكانة الضريح- سيناريو عام 1963م ماثل أمام الجميع بكل تأكيد- وهو ما أدّى لتكرار حوادث لجوء المُسلحين إلى الضريح لإعلان رفضهم الحُكم الهندي؛ ففي عام 1996م تكرّر نفس المشهد بشكلٍ أقل درجة بعدما لجأ مسلحون إسلاميون إلى الضريح فراراً من أجهزة الأمن الهندية التي لم تستطع اقتحام المكان بطبيعة الحال، لكن هذه المرة جرت معركة بين الطرفين خارج الضريح أسفرت عن مصرع 22 فرداً.

وفي عام 2002م اندلعت أعمال شغبٍ واسعة في كافة أنحاء كشمير على إثر تصريحات للسياسي "فيناي كاتيار" عضو البرلمان عن حزب "هندو باريشاد" الهندوسي المتشدد اعتبر فيها أن الشعرة المودعة في "ضريح بال" لا تعود إلى النبي وإنما لرجلٍ دين هندوسي، لذا فإنها يجب أن تعود إلى الهندوس من جديد.

بسبب هذه الوقائع فرضت الهند على الضريح حراسة أمنية مشددة، لمنع تكرار محاولات "الاستغلال السياسي" للضريح، لكن هذا لم يمنع من تكرارها، وهو ما حدث منذ 3 أشهر فقط حين هاجم باكستانيون 3 من حرّاس الضريح وحاولوا انتزاع الأسلحة منهم، لكن الشرطة تعاملت معهم فأودت بحياة أحدهم قبل أن يتمكن الباقون من الفرار بسبب "ممارسة الشرطة ضبط النفس لحُرمة الضريح المقدس" كما أعلنت أجهزة الأمن الهندية حينها.

أيضاً، الضريح أصبح هو المقر الرئيسي لاستضافة صلوات الأيام الكبرى لمسلمي كشمير كالأعياد ورمضان، والتي عادةً ما يقود فيها السياسيون الكشميريون عشرات الآلاف من السكان للتعبُّد في ساحة الضريح ثم الاشتباك مع الأمن الهندي بشكلٍ دوري لإحياء مطالبهم بالانفصال عن دلهي.

لذا اعتادت الحكومة الهندية أنها كلّما اشتمّت رائحة اضطرابات وشيكة في إقليم كشمير أن يكون أول قراراتها إغلاق الضريح؛ خوفاً أن يتحوّل إلى بؤرة لتجمُّع الاحتجاجات المناهِضة لها، بعدما أصبح رمزاً مقدساً مهماً لرفض مسلمي كشمير الانصياع للحُكم الهندي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد متاريك
باحث في التاريخ وعلوم اللغة
باحث في التاريخ وعلوم اللغة، صحفي مصري، عمل محرراً في عدد من دور النشر.
تحميل المزيد