هوية مختلفة للجمهورية الجديدة.. هكذا غيّر “3 يوليو” مفهوم الوطنية في مصر

عربي بوست
تم النشر: 2022/07/04 الساعة 10:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/04 الساعة 10:57 بتوقيت غرينتش
موكب المومياوات في مصر/رويترز

على مقياس مبحث تاريخ الأفكار، فقد بزغت "القومية" كظاهرة في أوروبا أولاً، في محاولة لصياغة عقد اجتماعي أكثر رحابة من ضيق العلاقات التي لم تسفر عن الاستقرار السياسي المنشود بشكل مستدام، سواء كانت صيغة تلك العلاقة دينية بين الكنيسة الإمبراطورية وبين ممثليها الإقليميين، أو كانت سياسية- سياسية، كما يقول باحثون ومؤرخون، بين الحاكم الإمبراطوريّ وممثليه في الأقاليم التابعة للإمبراطوريّة. 

وفي كل الأحوال، كانت القومية في أوروبا من الناحية التاريخية تالية على مراحل من الاقتتال العنيف داخلياً، ما أدى إلى اعتبارها -حينئذ- صيغة ممكنة للاستقرار السياسي طويل الأمد، مقارنة بالمقاربات السابقة، وبالأخص بعد صلح ويستفاليا 1648. 

في الشرق وفي الجنوب، بما في ذلك مصر، اتخذت القومية وما يتقاطع معها من نزعات مشابهة تصب في اتجاه نفس القيم غرضاً مغايراً عن الغرض الذي ظهرت من خلاله في أوروبا سابقاً، حيث كانت وظيفة القومية هي تقديم سردية متماسكة لمواجهة الاستعمار الأوروبي بالغ التقدم، على أساس وطني، وتأسيس لاحقاً ما يعرف باسم دولة ما بعد الاستعمار. 

المفردة الثانية في المركب الوصفي الأكثر شيوعاً وتدليلاً، نظرياً على الأقل، في وصف مصر من ناحية الاجتماع السياسي، أنها -نخبة ومجتمعاً- على مدار عقود للوراء، حاولت استخدام القومية رافعاً ورديفاً لصفة "التحديث" والتي تعني، اصطلاحاً، تعزيز دور الدولة في نقل المجتمع من أشكال الإدارة والسياسة البدائية، تلك المستمدة من الدين وتفاعل التاريخ والجغرافيا والاقتصاد السياسي، لكي تتحول إلى مؤسسات أكثر تحضراً على غرار تلك التي أسفرت عنها النهضة الأوروبية، والتي نقلت إلينا عبر الترجمات والأسفار والحملات الاستعمارية. 

الركائز التي تستند عليها الدولة الحديثة

وفقاً لبندكت أندرسون أحد أبرز المنظرين للدولة القومية في كتابه "الجماعات المتخيلة"، فإنه بالرغم من أن مصطلح القومية بشقِّه الوصفي المكمل الآخر "الحديثة" يشير بطبيعة الحال عادة إلى حزمة من الصور الذهنية التي قد تختلف من بيئة سياسية لأخرى، بما في ذلك الأخذ في الاعتبار تطور دلالة استخدام المفردة تاريخياً من الغرب إلى الشرق، فإنّ المصطلح أيضاً في نفس الوقت، يشير إلى مجموعة من "الثيمات" شبه الثابتة إلى حد ما، والتي تكون جزءاً من تجربة كل أمة في هذا المضمار. أشهر تلك الثيمات شبه الثابتة، هي: العلم الوطني والنشيد والخريطة والجريدة القومية والأعلام المؤثرون. 

على نحو عملي، يعاد سبك تلك الثيمات التي تُستحدث في حقبة تاريخية معينة، هي حقبة التحرر من الاستعمار الغربي في الشرق والجنوب، مع مكونات أخرى أكثر أصالة، بحيث تصبح القومية، كما تبدو في صورتها الجديدة، أشبه بنسيج متصل على مر الزمان، يؤصل إلى فكرة أن تلك الجماعة السياسية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ.

تتضمن تلك الهوية الجديدة، القديمة، التي تتشكل على أنقاض الأطلال الاستعمارية، تعريفات وأكواداً، لا يمكن تغييرها إلا بصعوبة شديدة، عن الموضوعات الرئيسية التي تخص الجماعة الإنسانية التي تتماهى مع تلك الهُوية المركبة، بما في ذلك طبيعة التدين وحدود التعايش الداخلي والعدوِّ والصديق في الخارج، من أفكار ودول أخرى تتبنى أيدولوجيا معينة، أي أننا نكون بصدد منظومة ثقافية متكاملة، هي تجسيد لتفاعل التاريخ وشبكات المصالح في فترة معينة، يجري تصويرها كما لو كانت أصيلة وفوق تاريخية. 

في الاقتصاد السياسي للفكر القومي الحديث، فإنّ الكلمات المفتاحية لذلك التحول، هي مفردات: التنظيم والنخبة والانحيازات الوطنية، التي تعطي فئة معينة، من المهنيين أو المتعلمين، أو من مزيج بينهما، القدرة على النضال الدؤوب ضد الاستعمار أولاً ومحاولة تأسيس عقد اجتماعي وسياسي ملائم وجامع في حقبة ما بعد الاستعمار.

الذات الوطنية الحقيقية والتجربة المصرية

الذات الحقيقية هو مصطلح مرتبط بمدارس علم النفس العلاجي في الأساس، وجرت إحالته واستعارته واستخدامه لاحقاً في حقل علم النفس السياسي، ضمن دراسات القومية والأمة الواحدة الضاربة بجذورها في التاريخ. 

أحد التطبيقات العملية لهذا المصطلح في الدراسات المصرية، هو ما ينظر له تيارٌ متأثر بالنموذج القومي الغربي في صورته الأكثر بريقاً، حيث يذهب هذا التيار إلى أنّه من الممكن في مصر تأسيس قومية وطنية متصالحة مع الجذور الفرعية المتتابعة تاريخياً على تلك الجغرافيا الحالية المعروفة بمصر الآن، من هويات فرعونية وعربية وإسلامية وقبطية، وتيارات فكرية يمينية ويساريَّة، تتسع للجميع، دون أن تؤثر سلباً على ذلك المركب القومي المحدد جغرافياً والمعروف بمصر.

بناء على هذا التصور، تكون الهوية المصرية هي الأولوية لدى كل التيارات المنتمية لتلك البقعة، وتنصهر كل الهويات الفرعية وتذوب -دون تعارض- في الهوية المصرية بانسجام، كما يصعب أيضاً تذويب الهوية المصرية المميزة تلك في أي من الهويات الإقليمية المنافسة، حيث تكون الجغرافيا أحد أبرز أشكال الثبات الطبيعية في تعريف ما هو مصري، واستبعاد ما هو غير مصري.

في نفس الوقت، يكون هناك اتفاق نظري، على الأقل، بين النخب المصرية، على أنّ التخصيص المضاف إلى مفردة "القومية"، وهو "الحديثة"، يقتضي أن يكون الأصل هو العمل على الحفاظ على ما هو موجود بالفعل، وبناء ما ليس موجوداً من الهياكل الأساسية التنظيمية للدولة الحديثة، من دستور تعددي وحماية للحريات الفردية ومؤسسات منتخبة، قدر الإمكان.

بامتداد التاريخ المصري الحديث، لم يكن العقد الاجتماعي، أو العلاقة بين السلطة الحاكمة وأطياف المجتمع أبداً بتلك الصورة الوردية؛ ولكن كان هناك اتفاق ضمني على المحاولة الجادة من كل التنظيمات للحفاظ على الثيمات الرئيسة لمصر، بصيغتها القومية الحديثة، ولو على الورق.. وهو ما تغير سلباً في اتجاه تفكيك القومية المصرية، تحت شعارات الحفاظ عليها، ضمن نتائج حركة 30 يونيو/حزيران 2013 وما تبعها.

تقويض دعائم الدولة الوطنية الحديثة

على العكس من حركة يوليو/تموز 1952، التي ساهمت جوهرياً في إرساء قومية مصرية دولاتيّة ذات طبيعة خاصة، من ناحية العلاقة بالأرض والآخر الخارجيّ ودور مصر في الإقليم إيجاباً، مع الأخذ في الاعتبار أنه كان لها آثارٌ سلبية على الشق الخاص بالتحديث السياسي طبعاً، فإنّ حركة يوليو/تموز 2013 لم تسهم قط إلا في تقويض دعائم الوطنية المصرية التي حارب المصريون من أجل إرسائها بدءاً على الأقلِّ من التصدي للحملة الفرنسية على البلاد 1798 مروراً بما تلاها من حملات استعمارية.

فبإزاحة الرئيس المنتخب لأول مرة في تاريخ البلاد، عسكرياً 3 يوليو/تموز، حيث يعدُّ الانتخاب المؤسساتي أحد أبرز أشكال التحديث في صورته الحقيقية، وبالاستعاضة عن الآليات الديمقراطية لصالح آلية شديدة الرجعية والانحطاط في رمزيتها 26 من نفس الشهر، وهي الدعوة إلى قيام طائفة معينة من المجتمع "لتفويض" الجيش للقضاء على الفصيل الثاني الأكثر تنظيماً في البلاد، والذي ترجم عملياً في أحداث 14 أغسطس/آب 2013، في وقائع العودة إلى إرساء الحكم بشرعية الدمِّ، الدمِّ وحده والقوة فقط، يكون الجيش والنخب التي عاونته حينئذ أجهزوا على أبرز السمات المنشودة للقومية والتحديث في البلاد، النسيج الاجتماعي القادر على تحقيق الحدود الدنيا من التماسك ومرجعية الأغلبية في تحديد شكل الحكم لفترة مؤقتة.

وبالتنازل الطوعيِّ عن الأرض، لأول مرة في تاريخ البلاد الحديث على هذا النحو، وهي حالة تختلف عن حالات الفقد القسري للأرض، والنضال ضد المستعمر الخارجي من أجل استردادها وتثبيتها، والتي تساهم عادة في تقوية النسيج الاجتماعي، وهو ما حدث في أبريل/نيسان 2016 بالتخلي لصالح منافسي مصر الإقليميين، السعودية وإسرائيل، عن بعض النقاط شديدة القيمة والاستراتيجيَّة لصالح البلاد، وهو ما كان يرفضه تماماً نظامُ مبارك؛ تكون حركة 3 يوليو/تموز 2013 ضربت مسماراً عميقاً في نعش ذلك المفهوم الذي تدعي نفسها أنها تنتمي إليها، وهي مصر القومية الحديثة.

وهو ما ينسحبُ أيضاً على اتفاقات شرعنة بناء سد عملاق يتبع قوى أجنبية منافسة على حدود مصر الجنوبية، بما يؤثر سلباً على حصة البلاد من المورد الأهم وسر وجودها وبقائها، وصولاً إلى اتفاقات بيع ثروات البلاد الطاقوية وأصولها الاستراتيجية تباعاً لمنافسيها التقليديين في الإقليم، عبر قرارات منفردة، لم يكن ليوافق عليها أي نظام حاكم تحت مظلة قيم "الدولة الوطنية المصرية" الحقيقية، ليبدّد النظام الذي صعد، للمفارقة، تحت حجة الحفاظ على ما تبقى من سمات القومية والتحديث، أبرز مقومات ما جاء من أجل الحفاظ عليه، الأرض ومكانة الدولة في الإقليم والآليات المؤسسية لاتخاذ القرار.

3 يوليو والذات الوطنية المزيفة

أسست حركة 3 من يوليو/تموز نمطاً مزيفاً، شديد الزيف، من الوطنية المصرية، فأمام مصطلح الذات الوطنية الحقيقية، نجد، في علم النفس السياسي، مقابلاً له يجسد ما تعيشه مصر منذ 9 أعوام، وهو الذات المزيفة. 

الذات الوطنية الحقيقية معرضة للهزيمة، ومعرضة للمعاناة الاقتصادية، ومعرضة للعقوبات الخارجية، فكونها حقيقية، أي لدى نخبتها أولويات وطنية كاملة مقدمة على أي اعتبارات أخرى، ليس عاصماً للمجتمع والأمة الوطنية من الشقاء. أما الذات المزيفة، مثل التي أرستها الـ3 من يوليو، فهي فضلاً عن كونها تؤسس لشقاءٍ عموميٍّ محقق لا لبس فيه، فإنه يكون شقاء منزوعاً من القيمة والنضال والغاية، أي شقاء وانحطاط. شقاء بلا هدف.

فكلُّ ما يقدمه وظيفياً نظام الثالث من يوليو وجوهر وجوده، فضلاً عن كونه وجوداً قسرياً، هو أنه يقول إنّ استبداله شعبياً في أي وقت يعني المجهول والفوضى، لذا، فمن الأفضل للجميع، أن يتماشى -بنص تعبير السيسي- مع كلِّ التنازلات الوطنية التي يقدمها ذلك النظام على طبق من ذهب لأعداء البلاد ومنافسيها، مقابل ألا يستغلّ ذلك النظام نفوذه المصالحيَّ داخلياً وخارجياً في حرق البلاد.. شرعية الابتزاز، فقط. 

أما عن الأيقونات المشكلة للهُوية المصرية الجديدة، سنجد مثلاً أنّ ذلك النظام، مدعي الوطنية وجوهر تجسيد الوطنية الزائفة، دائمُ الاستدعاء "للفرعونيَّة" على مستوى السيميائيات السياسيَّة، من أيقونات وحفلات وملوك. والأصل، أنّ الفرعونية جزء من التاريخ الثقافي للأمة المصرية، لا ينبغي التنصل منه أبداً، ولكنّ النظام المزيف لا يستدعي الفرعونيَّة من باب الفخر الحقيقي بالماضي الذي يمكن الاستفادة منه حاضراً ومستقبلاً، وإنما من أجل وظيفته السياسيَّة في التكريس لحكم الفرعون الواحد من جهة، ومن جهة تعمد إبراز التناقضات الحضارية بين بعض الرموز الكامنة في الثقافة الفرعونية وبين تيار من خصومه، الذي تعمد تحويلهم إلى خصومه عبر سلسلة من الانتقامات السياسية، ذلك التيار الديني المهجوس بعواقب تقديس الرموز الفرعونية، للإيهام بتقدُّمه، والتأكيد على سردية رجعية خصومه ورفضهم لأحد أبرز مكونات الثقافة المصرية.

موكب المومياوات أثار حماس المصريين/رويترز

كذا، فإنّ نظام الذات الوطنية المزيفة الذي لا يرى في الوطنية إلا أداة للابتزاز يجد إشكالاً كبيراً في التعامل مع إحدى أبرز الصفحات الناصعة في التاريخ المصريِّ المعاصر، وهي حرب أكتوبر، فتلك الحرب، بالنسبة لنظام 3 يوليو ليست شاهداً أبداً على قيم الحرية والكرامة والشرف وتكريس العداء ضد المحتل العبري الرابض في الشرق، والتي، أي تلك القيم، قد تنفجر في وجهه وتطيح به وتزلزل أركانه، إذا ما مدت على استقامتها وكانت هي الدروس المستفادة حقاً من ذلك الحدث، وإنما، بالنسبة لذلك النظام مدعي الوطنية، باتت الحرب شاهداً فقط على شرعية تمدد دور الجيش من العسكريِّ إلى السياسي والاقتصادي باعتبارها حدثاً لم يتكرر في تاريخ الحروب العربية- الإسرائيلية يستحقُّ ورثة القائمين عليه تحسين وضعهم التاريخي.

 كما باتت تلك الحرب شاهداً على ثمرات السلام مع إسرائيل والتوسع في التطبيع معها، بدلاً من النظر إليها، ضمن نظرة وطنية حقيقية، تبرز أهمية العمل المؤسسي وقيمة العنصر البشري في تذليل فوارق القوة والتقنية بين العرب والمحتلِّ، أي أن الحرب فُرغت من قيمتها النضالية والمؤسسية لصالح حزمة من الأفكار التي تعضد فقط وجود هذا النظام.

على هذا النحو، باتت الوطنية الجديدة، في أكثر صورها زيفاً، معادلاً موضوعياً لاختزال دور الدولة اجتماعياً في حفظ الأمن بشكل تقني فقط، دون تطبيق لسياسات العدالة الاجتماعية والوئام الوطني الحقيقي، أي دولة الحافة. كما تعيد تلك الوطنية تعريف عدوّها بشكل أكثر حسماً وأكثر تطرُّفاً بشكل يتماشى مع سياسات وضع المجتمع على الهاوية، فالعدوُّ بالنسبة لنظام الـ3 من يوليو، من الداخل حصراً، من إرهاب وإخوان وأهل شر، بينما الأعداء الخارجيُّون مقدورٌ عليهم نوعاً ما، وفي صورة أخرى هم فقط كل من يدعم أعداء الداخل، والبطولة والجدارة بالحكم لا تنطبق إلا على شخصٍ واحد فقط، هو المنقذُ ابنُ المؤسسة العسكرية، والتحديث السياسي في صورته الجديدة مقصورٌ على بناء أفخم مبنى برلمان وأعظم قصر رئاسي وأضخم عاصمة إدارية، دونما أي إصلاح حقيقي أو تعزيز للصيغة المعروفة تاريخياً لضمان حياة سياسية ناضجة عبر دعم الطبقة الوسطى صناعياً وزراعياً وتنظيمياً، فعلى النقيض، لم تصب سياسات النظام الاقتصادية إلا في تعميق الفجوة بين الطبقات وسحق الطبقات الوسطى والفقيرة لصالح النخب العاملة مع الجيش والرئيس.

من مصر إلى Egypt! 

شاع في الآونة الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تداول مقاطع ساخرة لفئاتٍ من الشباب التي تعيش في مصر ظاهراً لكنها تمارس حياتها، من عمل وترفيه وتشجيع رياضي، كما لو كانت في أوروبا، حيث تستخدم مفردات إنجليزية بلكنةٍ تشبه لكنة المتحدثين الأصليين للتواصل، وتسكنُ في تجمعات سكنية معزولة عن معظم العشوائيات المصرية المعروفة، وتتعلم -في أسوأ الظروف- في الجامعات الأهلية، التي سماها النظام أهلية، ولكنّ مصاريفها السنوية هي أضعاف الجامعات الحكومية التقليدية رديئة الخدمة التعليمية، وتتخرج لتتبوّأ وظائف مرموقة في الجهاز الحكومي بحلته الجديدة في العاصمة الإدارية، أو تلتحق بوظائف  في الشركات متعددة الجنسيات، وهي الطبقة المثالية التي يستهدفها نظام الـ3 من يوليو 2013 بالخطاب والخدمات عادة.

على هذا المنوال، تغزل دولة يوليو الجديدة تلك أيضاً، بشكل واعٍ، أجيالاً جديدة من الإداريين، الذين يشبهون الساسة من الخارج فقط ولكنهم إداريُّون للنُّخاع، من أجل تبني مفرداتها والدفاع عن توجهاتها والتصدُّر في المحافل الدولية منزوعة القيمة والمضمون لتجميل شكل النظام الحاكم، وذلك عبر ماكينات تفريخ مستحدثة مثل الأكاديمية الوطنية للتدريب والبرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة وأكاديمية ناصر العسكرية واتحاد شباب الجمهورية الجديدة وشباب حياة كريمة وتحيا مصر وحزب مستقبل وطن.

لذا، فقد أصبح الالتحاق بأيٍّ من تلك الواجهات منزوعة الدسم حلماً للكثير من الشباب المصري، في عصر ما السياسة، وفي ظل تبني النظام منظومة صارمة للتمييز بين العدوِّ والصديق، حيث تكون العضوية هنا، خاصة لو دُعمت بمسمى إداريٍّ رفيع وشبكة علاقات جيدة، شكلاً من أشكال الحماية من بطش أذرع الدولة المنفلتة بلا رقيب في الحياة اليومية، وفي أسعد الأحوال، فرصة محتملة للترقي الطبقي والوظيفي، على غرار النقلة الاجتماعية الكبيرة التي نالها آخرون سابقاً على رأسهم أسماء مثل محمود بدر وطارق الخولي، فالتقاطُ صورة بالبدلة الرسمية في مؤتمر الشباب بشرم الشيخ قد يساعد كثيراً في صقل السيرة الذاتية لشاب مصري في الجمهورية الجديدة. 

في المقابل، فقد أدت تلك السياسات نفسها، خلال العقد الأخير، إلى خلق جيل من الشباب الذي تبدأ حياته الحقيقية من لحظة حصوله على التأشيرة للدراسة أو العمل في احد البلاد الأجنبية، وصولاً إلى الفرح المكتوم في إخفاقات نظام الوطنية الزائفة سياسياً أو اقتصادياً أو رياضياً، من أجل، فقط، تجنب التعرض لإحدى وصلات الشبق الوطني من إعلاميي النظام، حيث تصبح الوطنية الحقيقية، للمفارقة، في عدم الانخراط في مباهج منظومة تعيد تعريف حب الوطن بناءً على قدر التنازلات المقدمة للداعمِ الخليجيِّ، وعلى قدر تقديم فروض الطاعة لإسرائيل، وعلى قدر الاستعداد للتفريط في الأصول الإستراتيجية للبلاد.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد