بين الغربة والموت ثمة فروق تتضاءل في نظر البعض، يتشابهان في ألم الغياب، نعم أدرك تماماً مرارة هذا الشعور، فأنت لم تعُد ضمن قائمة لقاءات أصحابك، غائب عنهم بتفاصيل يومك، بعيد يرسم الزمان تجاعيد وجهك دون مقاومة، محروم حتى من إلقاء نظرة الوداع على من تحب، لكني بتجربتي تعلمت أيضاً أن في بعض الغياب حضوراً، فالغربة إن كانت موتاً هنا بغيابك فهي ولادة جديدة وإن كانت متعسرة في مكان آخر.
في انتظار الطائرة
لن أنسى تلك الليلة في مطار برج العرب بالإسكندرية، كانت ليلة الجمعة قبل أكثر من ثماني سنوات، وبينما كنت أجلس في مقاعد الانتظار وحيداً على بعد ساعتين من موعد إقلاع الطائرة، في خلوتي هذه أدركت أن الإسكندرية الجميلة التي جئتها مراراً من قبل للمصيف، جئتها الليلة مودعاً، أذهب بعيداً ولا أعرف متى يتجدد اللقاء.
هنا شريط الحياة مر ثقيلاً في خاطري، فعائلتي التي ودّعتها قبيل ساعات تسكن فؤادي بطمأنينة لن أسمح للغربة أن تجعلهم مجرد ذكريات، في هذه اللحظة لم أتمكن من أن أتمتم بالشعر كعادتي، أخرجت مفكرتي محاولاً تدوين هذا الشعور، لكن للأسف وجدتني حائراً بين الكلمات تائهاً بين الجمل، أتراقص على السطور كمن تمكنت منه الخمر فأسكرته.
وبقدر ما قد أبدو لبقاً حيناً مع الناس، تلعثمت أحياناً كثيرة وقتها وأنا أتحدث إلى نفسي، أتساءل: فِي أي سكة أسير؟ أشعر أني أفتقد جزءاً من نفسي أو بمعنى أوضح تركته خلفي في بيتنا البسيط، تركته خلفي تتحسسه أمي كلما استوحشت البعد، تركته بين أكف صغيري لعله يخفف من وطأة الشوق المنهمر إليه وهو لا يزال يتعثر في خطواته الأولى.
في قائمة الغرباء
ركبنا الطائرة وبدأت أشعر بألم يزداد في رأسي، أعرف أنه مرتبط بحالة الضغط، لكن الألم الأكبر كان في الحديث الذي يشتد في خاطري، لم أشعر بالرحلة كثيراً في حالتي هذه، هبطت الطائرة في مطار إسطنبول، لكن قلبي لم يهبط معها ليطمئن، تسلمت حقيبتي وعند بوابة المطار، كانت الحقيقة المرة التي عليّ مواجهتها أنني أصبحت ضمن قائمة الغرباء.
مثل غير دقيق
في بلادنا يقول المثل الشعبي "البعيد عن العين بعيد عن القلب" لكن بواقع التجربة تكتشف أن هذا المثل غير دقيق إذا كانت المحبة صادقة، فاللقاءات اليومية ليست دليل ود حقيقي، فمن ذاق الغربة يدرك تماماً أنه ليس كل بعيد عن العين بعيداً من القلب، بل كلما خطت الغربة تجاعيد وجوهنا حفرت عميقاً حباً لمن اغتربنا عنهم مسافة، والحب لا تنزعه المسافات وإن بدا فاتراً أحياناً، فأي غربة تلك التي تذيب شوق الأهل ودعواتهم صباح مساء، وأي غربة يمكن أن تنسيك لمّة الأصحاب، وأيها يمسح عن قدميك آثار خطواتك التي خطوتها في وطنك.
النصيحة المنسية
في السكن اضطررت لأن أتخلى عن بعض عاداتي، بت أعود من عملي أغلق بابي وأفتحه في هدوء، لا يعرفني جاري ولا أعرفه، ولا يسألني حتى من أنت؟، هنا تذكرت نصيحة أحد أقاربي عندما ذهبت لوداعه فقال لي: "كل مكان يُرفع فيه الأذان هو وطن" هذه الجملة حُفرت بعمق داخلي، فهي تعزف على وتر أجمل ما يميز إسطنبول وهو صوت الأذان في مساجدها وسحره في النفس، فغيرت روتيني اليومي، ساعدني على ذلك استقدام أسرتي الصغيرة، والصحبة التي ملأت عليّ وحدتي.
بين هويتين
في الغربة أنت وحدك مسؤول عن أسرتك ليس هناك من يشاركك هذا الحمل أنت وزوجتك، والسؤال الأهم هو الهوية، ولذلك فابني الأصغر على خطى أخيه يدرس أولاً في روضة عربية، أما أخواه فيذهبان صباحاً للمدرسة، وعصراً يتابعان دروس العربية والقرآن عبر الإنترنت، ثم يكملان واجبات المدرسة، ولدينا مسابقة قرآنية في المنزل كل رمضان بجوائز قيمة، غير صور الأقارب الذين يخضعون للاختبار في التعرف على وجوههم.
ثنائية السائح والمغترب
أصبحت أتعامل مع الغربة كالسائح لا المغترب، وبعد انتهاء الدوام، أتجول في إسطنبول، تلك المدينة التي تأسرك بحكاياتها ومعالمها، تمشي في أزقتها مبهوراً كأنك تستمتع بحكايات الجدات، المطر فيها زائر محبوب يداعب خديك بحبّاته، بهذه الطريقة عرفت المدينة كأني مولود هنا، وباكتشاف جمالها تعلمت كتابة الغزل، فالغربة كالصحراء، مِن الناس مَن لا يرى فيها سوى القحط والعطش، وأنا رأيت فيها خلوة تلهمني وصنعت من أشواكها حذاء يعينني عَلى حفر الحياة، نعم نتعثر أحياناً ونقع لكن نقف من جديد، فكل صعوبة في الحياة هي واحة للإلهام، وكل عقبة تتخطاها تصنع منك رجلاً، وكل بلاء نعبره يصنع للأمة مخلصين.
جزء من العمر
فلسفة أخرى ساعدتني في تجربة السفر هي حقيقة أن الغربة ليست وقتاً مستقطعاً أو مرحلة على الهامش، بل هي جزء من العمر، والقطار يمضي سواء كنت في الغربة أو بين الأهل، وهذه السنوات هي زهرة العمر، فماذا ستزرع في حياتك؟ وهي أغلى ما تملك.
كتابي الأول
في الغربة اتضحت خريطة طموحي وجنيت ثمار غرسي الأول الذي خرج للنور كتابي "المسلمون في الهند بين تضييق الواقع وتحديات المستقبل" بمشاركة مجموعة من الباحثين من الهند.
وبطول الغربة لم يتبدَّد الشوق، ولم تتضاءل اللهفة للقاء الأهل، فليس كل بُعد موتاً، فالرسول الكريم هاجر إلى المدينة وبساتينها الخضراء ومع ذلك بقيت مكة- الوادي غير ذي الزرع- أحب البلاد إليه، صلى الله عليه وسلم، وبهذه الفلسفة اتسعت مساحات الحب في قلبي، فرفقاً يا الله بقلب أحب هنا ويشتاق إلى هناك، قلب أحب المدينة ويشتاق إلى مكة وكل مكة تركها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.