تدين أسطورة مصر التاريخية لقادة عظام، عرفوا قدرها بين الأمم، ونفذوا ببصيرتهم إلى حقيقة جوهرها، فامتلكوا مفاتيح شعبها، وأضاف كل منهم مجداً جديداً، سُطِّر بأحرف من نور في كتاب حضارتها العريقة. من بين هؤلاء القادة بطليموس الأول، مؤسس الأسرة البطلمية في مصر، والتي يرى بعض المؤرخين أنها تمثل امتداداً حضارياً لمصر الفرعونية.
هو ابن نبيل مقدوني، يدعى لاجوس، وأمه تدعى أرسينوي، والتي ربما كانت تمت بصلة قرابة للأسرة المالكة المقدونية، قضى فترة شبابه في البلاط المقدوني، وسرعان ما أصبح من أصدقاء الأمير الإسكندر.
يُذكر أن فيليب المقدوني، والد الإسكندر، كان يغار من شعبيته، وبالتالي قام بنفيه للخارج، ولكن أعاده الإسكندر ليصبح من قواده في أولى حروبه ضد فارس، ومنذ هذه اللحظة لم يفارق الإسكندر الأكبر أبداً، وشارك في كل حروبه ونال بسبب شجاعته في حرب الهند لقب قائد. ولد في 366 ق.م في مقدونيا وتوفي عام 285 ق.م في مصر.
بعد الموت المفاجئ للإسكندر الأكبر في عام 323 ق.م، وبسبب عدم تركه وريثاً شرعياً، وذلك لأن زوجته الفارسية روكسانا، لم تكن قد أنجبت بعد، اتفق قادة الجيش، وهم سلوقس، وبطليموس، وأنتيوجونوس، وكاسندر، وليسماخوس، في بابل، على تقسيم الإمبراطورية المترامية الأطراف بينهم كقادة محليين، يتبعون سلطة مركزية في مقدونيا، تحت رئاسة القائد برديكاس، على أن يتم تنصيب فيليب أرهيديوس، وهو أخ غير شقيق للإسكندر الأكبر، ويقال إنه كان يعاني من قصور عقلي، كملك على كل الإمبراطورية، انتظاراً لمولود روكسانا التي أنجبت لاحقاً طفلاً سُمي "الإسكندر الرابع"، وتم تنصيبه كملك مشارك. تم اغتيال فيليب أرهيديوس على يد أولمبيا، أم الإسكندر الأكبر، ولاحقاً تم اغتيال ابنه الإسكندر الرابع على يد كاسندر.
أسفرت القسمة عن استحواذ بطليموس على مصر التي وصلها في 323 ق. م، وتمكن بفضل حنكته السياسية من ضم عدد كبير من كبار القادة في جيش الإسكندر إليه، وأيضاً بفضل براعته العسكرية تمكن من ضم أجزاء من شرق ليبيا إلى ملكه في مصر.
في بداية حكمه مصر، قام بقتل كليومينيس الذي كان قد عينه الإسكندر على مصر، كجامع للضرائب بعد اتهامه بالفساد المالي، وبالتالي أصبح هو الحاكم الأوحد عليها.
من أبرز الأمثلة على دهائه السياسي، اختراعه، كما تذكر بعض المصادر، لأسطورة أن الإسكندر الأكبر كان قد أوصى بدفنه في مصر، وبالتحديد في معبد الوحي الخاص بالإله آمون في واحة سيوة، وهي قصة لا يوجد عليها سند في حياة الإسكندر، ولكن ربما اختلقها بطليموس اعتقاداً منه أن دفن الإسكندر الأكبر بمصر سيمنحه عضداً كبيراً في الحكم، فجرياً على العادة اليونانية كان يتم تأليه مؤسسي المدن، وباعتبار أن الإسكندر هو مؤسس مدينة الإسكندرية فسيصبح إلهاً، وستُشد الرحال إلى قبره لزيارته.
وبالتالي، قام باعتراض الموكب الجنائزي للإسكندر، عندما وصل إلى سوريا، وقام بأخذه إلى مدينة منف، التي كان لا يزال يحكم منها قبل انتهاء إنشاء مدينة الإسكندرية، ومكث هناك فترة، إلى أن قام ابنه بطليموس الثاني فيلادلفيوس بنقله إلى الإسكندرية.
تتحدث العديد من المصادر، عن أن شخصيات مهمة مثل كليوباترا السابعة، ويوليوس قيصر، وأغسطس أوكتافيوس، وكاليجولا، وكاراكالا، قاموا بزيارة قبر الإسكندر، بل واستمر الناس في زيارته حتى القرن الثالث بعد الميلاد.
أثار انفراده بالحكم في مصر، وكذلك الشرعية التي نالها بسبب وجود قبر الإسكندر بها، وأيضاً التحالفات التي عقدها بطليموس مع قادة قبرص، التي قال عنها الإسكندر في السابق، إنها مفتاح مصر، حفيظة القائد برديكاس في مقدونيا، وبالتالي قرر الأخير غزو مصر.
تتبدى عبقريته وحنكته السياسية مرة أخرى، في تمكنه من استمالة عدد كبير من جنود برديكاس الذين انقلبوا عليه، حتى قتله أحد جنوده، كذلك لم يرغب في استغلال وجود الملوك الشرعيين القُصّر فيليب أرهيديوس، والإسكندر الرابع، اللذين كانا برفقة برديكاس في إصدار أوامر باسمهما، حتى لا يؤلب ذلك عليه باقي المنافسين. وفي عام 305 ق.م، قام بتنصيب نفسه حاكماً مطلقاً على مصر.
نال لقب "سوتير"، ويعني المنقذ، بسبب مساعدته لأهل رودوس، أثناء حصار ديمتريوس الأول، ابن أنتيوجونوس، لها، ولكنها صَمدت بفضل مساعدات بطليموس لها.
تمكن أيضاً من ضم سوريا لمُلكه، علماً بأنه لم يشترك في الحرب عليها ضد أنتيوجونوس، وذلك أيضاً يجب اعتباره مثالاً آخر على عبقرية سياسية نادرة، جعلته ينال ما يريد دون خسائر.
يُعتبر بطليموس، هو أول من سك العملات المعدنية في مصر، التي لم تعرفها من قبله، كذلك تم وضع حجر الأساس، لكل من مكتبة الإسكندرية، والفنار.
تتحدث الكثير من المصادر التاريخية عن كونه محباً للعلوم والفنون، وكان مثقفاً حقيقياً، وقِيل إنه ألف كتاباً عن حروب الإسكندر الأكبر.
تتبدى عبقرية هذا القائد الفذ في فهمه العميق لشخصية مصر، حيث وجد أنها بثقافتها العريقة ليست هي البلد الذي يذوب في ثقافة المحتل، بل العكس هو الصحيح، وبالتالي لم يقدم على تغييرات جوهرية في بنية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي بها، بل ترك كل شيء على ما كان عليه أثناء عهد الفراعنة، ولم يقم بتحصيل الضرائب على أراضي المعابد، بل وبسبب ثقافته الرفيعة قام باستحداث ديانة جديدة، أدخل فيها تأثيرات يونانية وأخرى مصرية، وهي عبادة سرابيس الذي عبده المصريون في شكل العجل أبيس، وعبده اليونانيون في شكل زيوس، إله الأوليمب، وذلك من أجل توحيد أو على الأقل إيجاد مشترك عقائدي بين الثقافتين، يمكن أن يؤلف بينهما.
ربما نجد فيما فعله نابليون بونابرت أمراً مشابها، عندما أرسل إلى علماء الأزهر خطابات، يقول فيها إنه مسلم وجاء إلى مصر كي يخلصها من المماليك الظالمين لأهلها، أي إن احترام ديانة المصريين، وترك الحرية الدينية لأهلها، ظل أمراً حتمياً على مدار تاريخها في تقبل الغازي، ويمكن لهذا أن يفسر، ولو جزئياً، لماذا لم يتقبل المصريون حكم الهكسوس والفرس، الذين لم يحترموا عقائد المصريين، بل وتهكموا على آلهتها.
عندما بلغ سناً متقدمة، واستشعر عدم قدرته على القيام بأعباء الحكم، تنازل عن العرش لابنه بطليموس الثاني فيلادلفيوس، وهو ابنه من الملكة برنيقي الأولى، وهو مثال آخر على مدى الحنكة السياسة التي كان يتمتع بها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.