اكتشفت مؤخراً أنه قد تكوَّن لديَّ ميل لمشاهدة حفلات عبد الحليم حافظ وأم كلثوم على شاشة التلفزيون، وأستمتع بمشاهدة انسجامهما وتفاعلهما مع معاني الأغنية والألحان الشجية المرافقة لها، الذي أدهشني أن حليم في أواخر أيامه كانت تبدو على وجهه وجسده علامات المرض والإرهاق، ولكن صوته كان يسمو في أعلى مراتب الإحساس والشجن.
لم يُنعم الله على حليم بملامح جميلة وبنية قوية، وخلال اللقاءات الصحفية العديدة معه، وحتى في صوره وأفلامه، كان ينظر إلى ممثلي السينما الوسيمين مثل عمر الشريف ورشدي أباظة وأحمد رمزي بمزيج من الغيرة والافتتان، ولكن لا حسد في تلك المعادلة الغريبة، لأن الإنسان المبدع والطموح لا يبدد جهده ووقته على شعور دونيٍّ ينم عن الضعف. أعتقد بأن بعض مشاعر حليم الحقيقية كانت تشابه ما عبَّر عنه ويليام شكسبير في شعره هذا الذي قام بترجمته جبرا إبراهيم جبرا:
حين يحط بي القدر وتُعرض عني أعين الناس
فأندب وحشتي وأبكي لحالي المنبوذ
وأقرع آذان السماء الصماء بصراخ ليس يجدي
وأنظر إلى نفسي وألعن حظي
متمنياً نفسي أمرأً أكثر مني أملاً
لي محيّاً كمحيّاه، ولي ما لَه من الصَّحب الكثير
مشتهياً لنفسي فنّ هذا ومجال ذاك
قليل القناعة بما أنا في أشدِّ التمتع به
وفيما أنا في هذه الأفكار أكادُ أحتقر نفسي
تخطرُ فجأة أنت ببالي، وإذا بحالي
كقُبرةٍ عند انفلاق الصبح، تنطلقُ
من على كامد الأرض، لتهزجَ عند أبواب السماء
لأن هواكِ الشهيّ يثيرني حين أذكره
فأزدري عندها استبدالَ حالي بالملوك
أنا لا أحسد حليم على هذا الشعور، لأنه كان يعلم من أطبائه في مصر وإنجلترا أن أيامه الباقية قليلة، وأن المرض تمّكن من جسده في منتصف العشرينيات من عمره. مع ذلك لم ييأس، أظن أنه أيقن أن الله وهبه صوتاً رخيماً، والأهم جمالية في أسلوب الغناء، فسارع في عملية الإلهام والإبداع الجماعية مع رفاقه من الشعراء والملحنين، لا أعلم بالضبط هل أراد بذلك تخليد اسمه من خلال أغانيه الآسرة، أم كانت ردة فعل طبيعية ليتناسى مرضه ونهايته المتسارعة.
لبى الكثير من دعوات العشاء عند أصدقائه من الفنانين والمعجبين، وقام بالمقابل بدعوتهم إلى منزله، ولكن عوضاً عن التلذذ بأطايب الطعام الموجود على المائدة، كان يتقيد بالقائمة القصيرة من الأطباق المسموح له بتذوقها حسب توصيات أطبائه، ويمضي السهرة وهو يراقب أصدقاءه وهم يأكلون بحرية تامة مختلف أصناف الأطعمة.
عاش في حالة انكسار دائمة، صبغت صوته بالحزن في كثير من الأحيان، ربما تيتُّمه كان له الأثر الكبير على حالته. كنت أتخيل جسده النحيل يرتجف من آلام الوحدة وانكشاف المصير عندما كنت أشاهده يغني في أيامه الأخيرة، ويزيد هذا الشعور عند ملاحظتي لوجنتيه الناتئتين وعينيه الغائرتين.
كان الليل صديقه وعدوه في آن واحد، يخاف أن يأتيه النزيف بعد منتصف الليل والجميع نيام. فعندما يأتي المساء كان يجتمع في منزله صفوة المثقفين والأدباء والسياسيين المصريين والعرب، وينصت بشغف لكلامهم ساعات طويلة، وبعد ذلك يحين دور الشعراء والملحنين، ليعرضوا عليه إبداعاتهم ليختار الأفضل منها، وعندما يغادرون، وقبل بزوغ الفجر بقليل، يخرج بسيارته ليطوف في شوارع القاهرة وحده أو برفقة أحد أصدقائه المقربين حتى طلوع الشمس، فيرجع بعد ذلك إلى منزله ويخلد إلى فراشه بعد أن يتأكد أن أخته "عليَّة" قد استيقظت.
كان محاطاً بالجميع، ولكن قلبه كان يعاني من الوحدة والهجران نهاره ليل وليله نهار، لا شيء يسليه أو يملأ الفراغ الموحش في داخله، والكارثة أن لا أحد يعلم بذلك، وهو يبذل كل جهده لإخفاء ذلك. تأمل عينيه عندما يغني:
شوف بقينا فين يا قلبي وهي راحت فين..
شــــــوف خدتنا لفين يا قلبي..
وشوف سابتنا فين
أو حين يغني:
سقيته من حناني..
وبنيت معاه أماني..
وقلت يا ريت يا دنيا..
تديني عمر تاني.
ظهرت شائعات كثيرة عن قصص حب حليم للجميلات في القاهرة وبيروت وباريس…إلخ، لكن حتى سعاد حسني، وهي الأبرز بينهن، نفى حليم قصة زواجه منها، ربما التعقيدات في حياته منعته من الوقوع في الحب، أو لأنه كان دائماً يعطي الأولوية لفنه.
كل هذه العقبات لم تثنه عن المضي في مشروع تجديد الغناء العربي التقليدي مع أصدقائه محمد الموجي وكمال الطويل ومرشده محمد عبد الوهاب، ولاحقاً، إحياء التراث الشعبي مع رفيقه بليغ حمدي، فقد كان يلاحق بليغ في جولاته البوهيمية ما بين القاهرة وبيروت والرباط، لأنه لمح مبكِّراً وقبل الجميع أن صديقه المزاجي يمتلك كمّاً هائلاً من الألحان الجميلة، ولكن حليم كان جشعاً، ويريد امتلاك أحلاها. وكان يمضي أجمل أوقاته عندما يجلسان في منزله بعد منتصف الليل وهما يتحدثان في مشروعهما الغنائي المقبل، والذي سيساهم في تطوير الأغنية العربية وانتشارها.
يقال إنه طلب من محمد حمزة، الشاعر المفضل لديه في سنواته الأخيرة، أن يكتب له شعراً يميل للتفاؤل والأمل، فكان له ذلك، فغنى خلال العامين المتتاليين 1974 و1975، أغنية "أي دمعة حزن لا"، ومن كلماتها:
ده الأمل في عينينا.. والفرح حوالينا..
سأل الزمان وقال إيه غيَّر الأحوال..
قلنا له حبينا حبينا..
وارتحنا ونسينا الجرح بتاع زمان
وكذلك أغنية "نبتدي منين الحكاية"، ومن كلماتها:
لكن مشينا..
وكملنا مشوار الحب.. ووصلنا..
والدنيا ما قدرت تعاندنا..
وتفرق بيننا وتبعدنا.
اختار حليم غناء "قارئة الفنجان" من أشعار نزار قباني في حفل عيد "شم النسيم" في أبريل/نيسان من عام 1976، وكان محمد الموجي قد استغرق سنتين في تلحينها، وقد شاء القدر أن تكون الأغنية الأخيرة لحليم، وكأنه كان يشعر بأن نهايته قد اقتربت، فبدا عصبياً طيلة فترة الإعداد للأغنية، ودخل في مشادة كلامية مع بعض المشاغبين من الجمهور الذين لم يراعوا حالته الصحية ومدى الجهد المطلوب منه عند غناء مثل هذه الأغنية الصعبة، فقد لحن الموجي بعض المقاطع بمقامات موسيقية مختلفة، لكي يختار حليم منها، ولكنه فضَّل أن يغنيها جميعاً، وكان هذا نادر الحدوث. شعرها كان تشاؤمياً، اجتمعت فيه معاني اليأس والقنوط.
بصّرت ونجّمت كثيراً..
لكني لم أعرف أبداً أحزاناً تشبه أحزانك..
مقدورك أن تمضي أبداً في بحر الحب بغير قلوع..
وتكون حياتك طول العمر كتاب دموع.
وسترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان..
وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان.
حذَّره الكثيرون من المضي في هذه التجربة، ولكنها كانت الأغنية التي أرجعت حليم إلى دوامة الحزن والعزلة، ولم يمهله القدر كثيراً، وانتهت رحلة الآلام والحرمان سريعاً. لكن الأمر المحيِّر أنه، ومع تغير الأذواق وظهور مختلف الموجات الغنائية الجديدة، فإنه ما زال يحتل مكاناً خاصاً على قمة الغناء والمجد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.