بدت التغريبة الفلسطينية حافلة بحكايات الذاكرة والثبات والعناد والعودة، والمفارقة ربما أو الفرادة للدقة أن الجيل الأول من اللاجئين الفلسطينيين ظن أن الهجرة إلى دول الجوار في العام 1948 ستكون لأيام فقط؛ لذلك حمل معه متاعاً قليلاً وزاداً معنوياً كبيراً، إلا أنها طالت لسنين، بل لعقود، بينما بدا الأساس أو الزاد المعنوي صلباً وثرياً جداً لدرجة أن المخزون الذي كان يُفترض أن يكفي لأيام صمد طوال السنوات، بل العقود الطويلة الماضية، دون أن ينضب أو ينتهي.
هاجر اللاجئون الفلسطينيون أولاً إلى دول الجوار، سوريا ولبنان والأردن ومصر، قبل أن ينتشروا لاحقاً في دول الخليج العربي، ثم أوروبا والأمريكتين، مضطرين طبعاً بسبب جرائم العصابات الصهيونية ودمويتها وسياسة الأراضي المحروقة التي اتبعتها عبر تدمير مئات القرى والبلدات الفلسطينية الآمنة والمزدهرة بالمهاجرين الذين بلغ عددهم قرابة مليون، إلا ربعاً تقريباً حملوا معهم عتاداً ومتاعاً قليلاً، الأبرز فيه مفاتيح البيوت، كونهم اعتقدوا أن الهجرة ستكون لأيام فقط والعودة فورية بعدما تهزم الجيوش العربية الدولة العبرية، خاصة بعدما طلبت منهم إلقاء السلاح كي تتولى هي مهمة التصدي للعصابات الصهيونية وهزيمتها، وإجهاض مشروعها الاستعماري في مهده.
لكن مع هزيمة الجيوش العربية، والإعلان رسمياً عن تأسيس دولة إسرائيل واحتلالها ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية، أيقن اللاجئون أن العودة ليست مسألة أيام، وقد تطول لسنوات، ولكن قليلة فقط بعدما صدقوا الروايات العربية الرسمية بأن التحرير سيكون قريباً أيضاً، وسيتم إلقاء الغزاة في البحر كما كانوا يسمعون من إذاعة صوت العرب ومذيعها الشهير أحمد سعيد.
بناءً عليه، فكّر اللاجئون بعقلهم الجمعي وذاكرتهم العصية على النسيان وفق قاعدة "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". من هنا بدأوا تأسيس حياتهم الجديدة والانخراط في محيط اللجوء، واعتبار ذلك وسيلة للنجاح، وإثبات الذات والعناد والصمود إلى حين تحقيق حلم العودة التي اقتنعوا دائماً بكونها حتمية، وبدت الفرادة هنا وحتى الإعجاز في الانخراط والنجاح وتنشئة الأجيال الجديدة بالتوازي مع العقل الجمعي والذاكرة العصية والإيمان الحتمي بالعودة إلى فلسطين.
من هذه الزاوية تحديداً لم تكن مفاتيح البيوت مادية فقط أو مجرد تذكارات وإنما حملت قيمة معنوية ووطنية هائلة، بعدما توارثها الأبناء والأحفاد، جيلاً بعد جيل في هدم ونقض لإحدى أهم الأساطير المؤسسة للمشروع الصهيوني القائلة إن الجيل الأول من الفلسطينيين سيموت، وسيطوي معه صفحة القضية برمتها، وفلسطين كدولة وكيان وإرث ديني تاريخي وحضاري إسلامي ومسيحي، خاصة مع الوقائع الاستعمارية التي فرضها الاستعمار الصهيوني بالقوة القهرية المسلحة.
إضافة إلى مفاتيح البيوت، فقد كان الزاد المعنوي ثرىاً وغنياً جداً، لم ولن ينضب بسبب التشبع بالمظلومية وعدالة القضية، وكون فلسطين أصلاً كانت مزدهرة وضمّت مجموعة من الحواضر الناهضة في القدس ويافا وحيفا وعكا والناصرة ونابلس وصفد وطبريا وغزة والجليل والخليل. وكان المجتمع يعج بالحياة والحيوية في الجوانب المختلفة من اقتصاد وتعليم وثفافة وفكر وفن ورياضة. وهنا تكمن الإشارة إلى ثلاثة معالم أساسية، أولها مفهوم تقديس الحج للعرب والمسلمين، وعدم العودة إلى الديار بعد الانتهاء من شعائر الحج في الأراضي الحجازية المقدسة، إلا بعد زيارة فلسطين والقدس أولاً بكل ما يعني ذلك من دلالات ومضامين.
تمكن الإشارة كذلك إلى الإذاعة الفلسطينية بندائها الشهير "هنا القدس"، والتي كانت الثانية عربياً بعد الإذاعة المصرية وندائها الشهير أيضاً "هنا القاهرة". أما الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، فكان الثاني أيضاً بعد الاتحاد المصري، وكل ذلك بموازاة حياة اقتصادية واجتماعية وسياحية وفكرية وثقافية حافلة وزاهرة أيضاً.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى معطى آخر، هو هجرة اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، وكانوا بآلاف قليلة وقتها، خرجوا بـ15 مليون دولار تقريباً تعادل قوتها الشرائية 15 مليار دولار الآن، وقادوا نهضة لبنان على كل الصعد الاقتصادية والمالية والتجارية والثقافية والفكرية والإعلامية والفنية في قطاعات الصحافة والإعلام والبنوك والمقاولات والخدمات. وفي هذا السياق يمكن الرجوع إلى اعتراف بليغ ومثير للملحن والمطرب الراحل ملحم بركات – أمام ذهول المذيع الذي أجرى الحوار- قال فيه إن الغناء والتلحين كان سماعياً في لبنان، وفقط بعد الاستعانة بخبرات اللاجئين الفلسطينيين جرى اعتماد النوتة الموسيقية.
شيء آخر، لا ينفصل عن التغريبة الفلسطينية، بل هو مكوِّن جوهري فيها تمثل بالاهتمام الفائق والمركزي بالتعليم، بناء على القواعد والمعطيات الصلبة السابقة التي خرجوا بها من فلسطين، والشعور بأنه، أي التعليم، مهم جداً للصمود والعودة، على قاعدة أن الوعي يمثل ضرورة لمواجهة المشروع الاستعماري، وأولى الخطوات نحو الانتصار الحتمي بإذن الله.
وفيما يخص التعليم والتغريبة بشكل عام، لا بد من الإشارة إلى دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا والدول العربية، خاصة دول الجوار في احتضان الفلسطينيين، وتحديداً الأونروا التي تشكلت بقرار من الأمم المتحدة وقدمت الخدمات التعليمية والصحية والسكانية المختلفة للاجئين، ومثلت ولا تزال عنواناً سياسياً للقضية الفلسطينية، وهذا ما يفسر سعي إسرائيل المهووس لإلغائها وإنهاء تفويضها.
بعد عقد من الزمن تقريباً بدأت مرحلة الخروج من دول الجوار والتأثير على الحياة الاقتصادية والثقافية والفكرية في العالم العربي كله في مرحلة الاستقلال والمساهمة في نهضة دول الخليج مثلاً منذ ستينات القرن الماضي عبر الكوادر المؤهلة والمثقفة والخبيرة من مدرسين ومهنيين وصحفيين ورجال أعمال قبل توافد بقية الأخوة العرب، خاصة من الحواضر الكبرى التي بدأت تضيق بها الحياة وبأهلها تحت وطأة أنظمة الاستبداد العسكري في القاهرة ودمشق وبغداد والخرطوم.
في السياق لا بد من الإشارة إلى أثر منظمة التحرير الكبير-1964- بصفتها الوطن المعنوي للفلسطينيين والجبهة السياسية العريضة التي مثلت نموذجاً فريداً وأبقت القضية حية لعقود وأخرجتها من سطوة أنظمة الاستبداد المهزومة، كما من الإطار الإنساني للاجئين على أهميته إلى الإطار التاريخي والسياسي المتضمن العودة والاستقلال وحق تقرير المصير.
انطلاق الثورة المعاصرة التي عبرت عنها المنظمة مؤسساتياً وسياسياً وانخرط فيها أبناء اللاجئين من مثقفين ومتعلمين ومهنيين من مخيمات اللجوء في دول الجوار وحتى من دول الخليج والكويت تحديداً، التي قدمت نموذجاً رائداً في احتضان الفلسطينيين ومنحهم حرية الحركة والنشاط ضمن هامش الحريات السياسية والفكرية والإعلامية الواسع بالبلد، ولذلك لم يكن غريباً أن يخرج معظم مؤسسي فتح، وجزء مهم بقيادة حماس، من هناك تحديداً.
وحتى مع التسليم بفشل قيادة المنظمة، لكن هذه الأخيرة نفسها نجحت نجاحاً استراتيجياً ومثّلت ولا تزال الوطن المعنوي وراية الجهاد والنضال تم تسليمها من جيل إلى جيل عبر السنوات والعقود الماضية نحو العودة والتحرير والشعب كله كان ولا يزال محكوماً بالأمل، وهو ما أعطانا القدرة على الصمود والحياة. ولعل أهم ما يقال هنا هو توارث الذاكرة كمفاتيح البيوت التي تمثل مفتاح العودة إلى الوطن، ورغم موت الجيل الأول لكن الجيل الثاني والثالث والرابع وحتى الخامس، لم ولن ينسى.
وبالعموم لا شك أن التغريبة الفلسطينية أصبحت مثالاً ونموذجاً يحتذى للتغريبات العربية اللاحقة، التي كانت في أحد جوانبها تعبيراً عن الفشل العربي في إنهاء التغريبة الفلسطينية الأولى.
بالأخير، وانطلاقاً من هذه الجزئية تحديداً، لا بد من الاشارة إلى قاعدة تاريخية وفكرية وسياسية مهمة مفادها أن التغريبة الفلسطينية كانت أولى التغريبات العربية، ولكنها ستكون آخر من تنتهي أيضاً، مع الانتباه إلى الحقائق والوقائع الثابتة لجهة ضرورة وحتمية إنهاء التغريبات العربية بعودة المهجرين واللاجئين إلى مدنهم وحواضرهم التاريخية الكبرى في مصر وسوريا والعراق والسودان واليمن، في خطوة تأسيسية منهجية ولا غنى عنها لإنهاء التغريبة الأمّ في فلسطين، وعودة اللاجئين الفلسطينيين بأجيالهم المتعاقبة التي لم ولن تنسى إلى مدنهم وقراهم التي شُرّدوا منها في العام 1948 كعنوان لنهضة عربية وإسلامية متجددة وحتمية، ولا غنى للبشرية جمعاء عنها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.