بعد مُضي نحو عقدين من عسكرة السياسة الأمريكية، بدأ المخططون الاستراتيجيون وصناع القرار في واشنطن مراجعة مسار السياسات الأمريكية، بعد إدراكهم حجم النزيف الذي أدمى قدرات وثروات بلادهم في حروب مطولة بأفغانستان والعراق، فضلاً عما أُطلق عليه الحرب العالمية ضد الإرهاب، وهي مراجعات نتج عنها تغيير أولويات واشنطن؛ من مكافحة الإرهاب إلى التنافس مع القوى العظمى، وبالتحديد كبح الصعود الصيني ومواجهة الطموح الروسي.
ففي وقتنا الحالي تبددت مقولة الرئيس بوش الابن: (من ليس معنا فهو ضدنا)، واختفى حديث وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد عن أوروبا العجوز، وأصبح من الماضي تهديد ترامب بالانسحاب من حلف الناتو بحجة تراجع أهمية الحلف وعدم وفاء الدول الأوروبية بنسبة الإنفاق العسكري المتفق عليها من ناتجها المحلي، وبدلاً من ذلك برز في عهد بايدن نمط مختلف يقوم على بناء التحالفات، وتعزيز الشراكات مع الأصدقاء في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.
ومن اللافت ضمن التوجه الجديد لواشنطن غياب العسكر عن قيادة دفة المؤسسات الأمنية والدبلوماسية الأمريكية، فقد أصبح من الذكريات تولي رئيس أركان الجيش الجنرال كولن باول منصب وزير الخارجية في عهد بوش، أو تولي العسكري السابق مايك بومبيو قيادة وكالة الاستخبارات المركزية، ثم منصب وزير الخارجية في عهد ترامب، بينما نرى اليوم على رأس وزارة الخارجية المدني جيك سوليفان أحد أعضاء فريق الأمن القومي في عهد أوباما، بينما يرأس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الدبلوماسي المخضرم ويليام بيرنز وليس الجنرال بترايوس.
مذكرات بيرنز الاستثنائية
المعتاد أن يكتب الساسة والقادة مذكراتهم بعد انتهاء خدمتهم، لكن في بعض الحالات الاستثنائية يكتب الشخص مذكراته بعد تقاعده المؤقت، وقبل توليه منصباً أكثر أهمية، وهو ما ينطبق على حالة ويليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزية الحالي، ففي عام 2019 نشر بيرنز مذكراته باللغة الإنجليزية في كتاب ضخم يتجاوز 470 صفحة بعنوان "القناة الخلفية"، تحدث خلاله عن نشأته في الصغر كابن لمدير وكالة الحد من التسلح ونزع السلاح الأمريكية، وذكر كيف قضى ثلاثة شهور من شبابه في مصر عام 1974 في ضيافة عائلة رفيقه بالجامعة التي هي في ذات الوقت عائلة كونراد إيلتس أول سفير أمريكي في القاهرة عقب عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد حرب أكتوبر، حيث تسكع بيرنز في القاهرة، وزار الأقصر وسيوة ومرسى مطروح، ثم حكى كيف تولى أولى مهامه الدبلوماسية في الأردن عام 1983 عندما كلف باصطحاب شاحنة تنقل أجهزة حاسب آلي واتصالات إلى العراق، لكنه تعرض للاحتجاز على يد الأمن العراقي لفترة وجيزة ومصادرة شاحنته بما فيها من معدات، ثم تناول حقبة عمله سفيراً لأمريكا في روسيا، وأخيراً توليه منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكي.
بيرنز وتراجع الهيمنة الأمريكية
لقد نص بيرنز في مذكراته على أن النظام العالمي الذي ظهر في نهاية الحرب الباردة قد تغير بشكل كبير، فقد عادت المنافسة بين القوى العظمى؛ حيث تقوم الصين بتحديث جيشها بشكل منهجي، وتستعد لتجاوز الولايات المتحدة لتصبح أكبر اقتصاد في العالم، كما توسع انتشارها العالمي ببطء وتؤدة؛ فيما ترى روسيا أن الطريق إلى إحياء مكانتها كقوة عظمى يمر عبر تآكل النظام الذي تقوده واشنطن، بينما الأنظمة الإقليمية التي بدت مستقرة بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب الباردة آخذة في الانهيار، وبالأخص في العالم العربي؛ مما يهدد بحدوث فراغات تبدد النفوذ الأمريكي.
ومن ثم يعترف بيرنز بصراحة باختفاء اللحظة الأمريكية التي دامت نصف قرن في الشرق الأوسط، والتي ورثتها واشنطن عن لندن، وعززها الدور الأمريكي في حرب الخليج الثانية، لكن تسبب تبني إدارة بوش لمزيج من التشدد والغطرسة؛ رداً على أحداث سبتمبر/أيلول في مضاعفة الاختلالات وتقويض النفوذ الأمريكي، وبالأخص في حرب العراق التي بدأت 2003، ثم جاءت إدارة أوباما لتحاول التكيف مع عالم تتلاشى فيه الهيمنة الأمريكية، وتبرز فيه أشكال جديدة من العولمة تتميز بتنوع الفاعلين وتجزئة القوة، فحاول أوباما إعادة تنظيم العلاقات مع المنافسين الصاعدين مثل روسيا والصين، فضلاً عن الشركاء مثل الهند، وحاول الإبحار في المياه المضطربة للربيع العربي، وتبني الدبلوماسية المباشرة مع خصوم تاريخيين لواشنطن مثل إيران وكوبا، ولكن جاءت قيادة ترامب لتقوض جهود أوباما، وتزيد الأمر سوءاً في لحظة تحول عميق في النظام الدولي.
تراجع الهيمنة يدفع لتعزيز الدبلوماسية
يتحدث بيرنز بصراحة قائلاً: (لقد أدى الإرهاق من التدخل الدولي بعد ما يقرب من عقدين من الحرب إلى تغذية الرغبة في تحرير أمريكا من قيود التحالفات والشراكات القديمة، وتقليل الالتزامات الخارجية التي يبدو أنها تحملنا أعباء أمنية غير عادلة وتجلب مشاكل اقتصادية). ويقر أن أمريكا لم تعد القوة المهيمنة، وأنه لا يمكن إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء في عالم أصبح أكثر تعقيداً وتنافسية، لكنه يجادل بأن أمريكا ستظل القوة المحورية لسنوات عديدة قادمة، مضيفاً أن المهمة الحالية لواشنطن هي استخدام ما تبقى من رصيد التفوق الأمريكي لتشكيل نظام دولي جديد يستوعب اللاعبين الجدد وطموحاتهم مع تعزيز المصالح الأمريكية الخاصة، ولتحقيق ذلك يرى بيرنز أنه لا بد من تفعيل الدبلوماسية واعتمادها كأداة رئيسية لإدارة العلاقات الخارجية وتقليل المخاطر.
وضمن ما سبق، تأتي زيارة بايدن للمنطقة خلال الشهر القادم؛ حيث سيزور إسرائيل أولاً ثم سيحضر قمة مجلس التعاون الخليجي بالسعودية والتي ستُدعى لها ثلاث دول تشمل مصر والعراق والأردن، في ظل حديث لملك الأردن عبد الله الثاني مؤخراً عن احتمال تدشين ناتو شرق أوسطي جديد برعاية أمريكية. وكذلك سيعقد بايدن خلال زيارته للمنطقة قمة افتراضية عن بُعد لمجموعة I2U2 الجديدة التي تشمل الهند والإمارات وإسرائيل، وذلك ضمن مخطط تنشيط التحالفات الأمريكية.
تهدف جولة بايدن لإبراز التعهد الأمريكي بضمان أمن إسرائيل في ظل تقدم البرنامج النووي الإيراني، ولطمأنة دول الخليج من جهة الالتزام بحمايتها في ظل قلقها المتزايد، سواء من مشهد الانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان أو من سعي واشنطن لعقد اتفاق نووي مع طهران؛ مما يتركها في مواجهة جار نووي قوي، وكذلك يسعى بايدن لتحقيق مصالح أمريكية مباشرة عبر الضغط لزيادة إنتاج النفط بهدف تخفيض أسعار الوقود الذي تجاوز 5 دولارات للغالون للمرة الأولى في الولايات المتحدة.
بناء على ما سبق، يمكن فهم تبني واشنطن لسياسة إرضاء حلفائها في عهد بايدن بدلاً من سياسة ابتزازهم في عهد ترامب، وتلويحها بالجزرة لخصومها قبل تلويحها لهم بالعصا الغليظة.
إننا في الحقيقة نشاهد إمبراطورية أدرك قادتها أنها دخلت مرحلة التراجع، بينما العديدون في بلادنا ما زالوا ينظرون لها وفق معطيات الأمس، وكأن عقارب الساعة لديهم تعود للوراء دون أن يستفيدوا من تشريح بيرنز وغيره لواقع القوة الأمريكية.
وإن إدراك التغييرات والمستجدات في موازين القوى في الوقت المناسب يساعد على التهيؤ للاستفادة بالفرص، والنهوض بأمتنا المقهورة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.