بين التمسك بقيمنا والانصهار مع مجتمعهم.. كيف نربي أطفالنا في الغرب؟

تم النشر: 2022/06/29 الساعة 09:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/29 الساعة 09:03 بتوقيت غرينتش

لأسباب متعددة ومتنوعة، اضطر كثير من المسلمين والمسلمات -تحت القهر والضغط- للهجرة إلى البلدان الأجنبية، إنه قرار لم يختره أغلبهم، ولا كانوا راضين عنه، بل هم لم يخططوا له أصلاً، وجاءهم مفاجئاً؛ فالحوادث التي عصفت بالمنطقة العربية في السنوات العشر الأخيرة جعلتهم يسيرون بهذا الاتجاه دون تفكير، ولا شك أنهم عانوا كثيراً من مشقة الانتقال والسفر، ثم من لواعج البعد عن الأهل والوطن، وفوقها من اختلاف الدين، والثقافة، والعادات، وطريقة التربية والتوجيه.

الغربة في بلاد أجنبية أصبحت قدر كثيرين، ولا يستطيعون لها دفعاً، فماذا يفعلون؟ وكيف يسلكون حتى يحافظوا على هويتهم، وعلى أولادهم، ودينهم وقيمهم؟ وهل تحتاج تربية الأبناء لمزيد من الجهد والانتباه من جانب الآباء والأمهات؟

وأبدأ بكلمة مواساة لهؤلاء، فأقول لهم: من قديم كانت بلادنا العربية بحال أفضل، وبعافية أكبر (أقصد: من الانحراف الفكري والديني والخلقي)، حيث كان يعيش أكثر أفراد العائلة بالبلد الأم، وتكون بينهم صلات أسرية وزيارات ودية؛ مما يعزز عند أولادهم: الدين والقيم والخلق.

 وكانت المدن صغيرة والمجتمعات متوافقة على القيم الكبيرة، فكان الناشئ محاطاً بسلطة والديه، وسلطة الدين، وسلطة الأساتذة، وسلطة المجتمع، فيخاف على مكانته وعلى سمعته فيحذر من الخطأ ويتجنب الشبهات (فكيف سيزوجونه لو عرفوا عنه الفحش، وكيف سيوظفونه لو علموا منه الغش أو الكذب؟)، فكان الناس أكثر استقامة وحرصاً على سمعتهم ومكانتهم. وأما اليوم فأصبح المجتمع كبيراً، وأفراده لا يعرف بعضهم بعضاً؛ مما سهل على الجيل الجهر بالمعصية وبالمخالفات دون خوف من المساءلة.

ومن قديم لم تكن التكنولوجيا متوفرة، ولا وسائل الاتصال الحديثة، التي جعلت العالم قرية صغيرة، فكان النبع أنقى، وكان الناشئة يثقون بأهلهم ويعتبرونهم مرجعهم، وكان البيت ملاذهم، والعائلة سندهم. وفي هذا الزمان تراجع كل ذلك، وأصبح الرفاق والفنانون والرياضيون هم القدوة والمرجع، وأصابنا ما هو أخطر:

1- اختلاط الثوابت بالمتغيرات، وعدم التمييز بين المحكمات والمتشابهات، مما ولد فوضى فكرية.

2- وتزامن هذا الاضطراب مع أفكار تربوية خاطئة:

مثل فكرة "الحرية للصغار"، مما جعلهم يصرون على سلوكهم، ويتفلتون من سلطة الأسرة، ويقودونها في أحيان كثيرة.

– اللين الشديد في التربية (بعد القسوة القديمة)، والحرص المبالغ به على نفسيات الأطفال ومشاعرهم؛ مما ولد الميوعة، وذهب بالحزم والهيبة.

وهكذا اجتمعت هذه المستجدات، فجعلت الوضع كارثياً في كل مكان على الكرة الأرضية، وحتى في بلادنا العربية والإسلامية، أصبحنا نلاحظ تلك التغييرات الجذرية، وأصبح أولادنا في خطر حقيقي، ورأينا منهم التغير بالأفكار أو التراجع الديني… فما هو الحل يا ترى؟

إليكم خمس نقاط لو التزمتم بها فإنها ستسهم، إن شاء الله، في الإنقاذ، وفي المحافظة على الأولاد:

أولاً: حرص الأهل

إذ تؤكد معلومات ميدانيّة أنّ العوائل المتدينة تستطيع الحفاظ على أولادها أكثر من غيرها، عن طريق تعليم أبنائها الحلال والحرام، والصلاة والصيّام وبقيّة الواجبات الإسلاميّة، ومتابعة أفكار وسلوك أولادهم، ومساعدتهم في اختيار رفاقهم.

ولا شك أن أكثر الأهل حريصون على أولادهم، ويبذلون كل جهدهم، ولكن هذه الجهود يجب أن ترتكز على أساليب تناسب العصر، فاللين والابتعاد عن الضغط والإكراه وعن الإجبار أصبح ضرورة، وإن تغيير أسلوب التربية من أهم الأمور في هذا الزمن، حيث أصبح الترغيب مقدماً على الترهيب، والتحبيب مقدماً على التنفير، والهدية أفضل من العقاب، والتحفيز خيراً من التخويف. وطبعاً كله بقدر، فلا يتحول إلى إهمال وتسيب.

ثانياً: التواصل مع الأقرباء بالبلد الأم

والكلام باستمرار مع الأعمام والخالات ومع أولادهم، ومع الأرحام في أي مكان كانوا، عن طريق وسائل التواصل، ومتابعة أخبارهم، ومعرفة عاداتهم وتفاصيل حياتهم وثقافتهم، ليبقى أولادنا على علاقات طيبة وقوية مع رحمهم، وحبذا لو أمتعنا أولادنا بذكرياتنا، وكيف كنا نعيش في بلادنا قبل هذه الغربة القاتلة. مع وسائل إيضاح وصور لبلادنا وللشوارع، وكلام عما اشتهر به البلد من محاصيل وصناعات، والحديث عن تاريخه المشرق، وطبيعة الشعب والإيجابيات التي يتمتع بها، وما مر عليه من صعوبات وكفاح ونضال…

والحرص على اللقاء مع الجالية المسلمة الموجودة بنفس البلد، بانتظام وفي أوقات متقاربة، وبالذات الجالية "العربية" والتكلم معهم باللغة العربية.

 والحرص على إقامة: رحلات- ومخيمات- وملتقيات ثقافية، إضافة إلى الأنشطة الترويحية والرياضية المتعددة، وعمل مسابقات، فمثلاً: من يستطيع الكلام باللغة العربية لمدة ساعة أو في يوم النشاط، فإن له مكافأة "جائزة مالية"، ومن يسمع الأخبار العربية كل يوم له ميدالية. ويمكن تشجيع الناشئة على كتابة قصة قصيرة من صفحة واحدة، والهدف فقط تحميسهم للحفاظ على اللغة العربية تحدثاً وكتابة.

والحرص في كل يوم جمعة، أو يوم العطلة، على قراءة القرآن جماعياً، فيجلس أفراد الأسرة كلهم معاً، ويقرأ كل ابن صفحة واحدة فقط، ثم يستمع لقراءات إخوته، ويصحح هو لهم لو أخطؤوا، وهذا النشاط البسيط الخفيف الأسبوعي يُبقي أولادنا مرتبطين بالقرآن الكريم، وباللغة العربية.

ثالثاً: المرونة والتيسير والتفريق بين العادات والتقاليد من جهة وبين الحلال والحرام من جهة أخرى، فلا يتداخلان

ولا شك أن ظروف الغربة تختلف  من بلد لبلد؛ فأستراليا غير أمريكا وأوروبا، وكل بيئة لها ظروفها التي قد تختلف قليلاً. فيراعي الأهل هذا في التربية والتوجيه وفي اللباس والسلوك.

والفكرة الأساسية وباختصار "لا تحرجوهم فتخرجوهم"، فالدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان، وليس فقط للعرب أو لمن يعيشون في مكة والمدينة وإنما نزلت الرسالة لجميع سكان الكرة الأرضية، وبالتالي يتوجب على المغتربين غربلة ما يتعرضون له من قضايا، وعرضها مجدداً على الميزان الشرعي، وعلى الخلافات الفقهية: فلا للتشدد، ولا لكلام الناس، ولا للعادات البالية… والصواب، والمطلوب هو "الالتزام بالدين كما نزل"، وكما ينبغي أن يكون. 

ونحتاج أن نرجع للوسطية، وفي كتاب عبد الحليم أبو شقة "تحرير المرأة في عصر الرسالة" فوائد جمة فيما يخص بناتنا وأبناءنا، وما يخص العلاقات الاجتماعية الصحيحة والصحية في المجتمع.

ولو اتبع الآباء والأمهات سنن المصطفى لنجوا من معارك كثيرة خاسرة مع الأبناء، ولعرفوا كيف يصلون معهم لحلول توافقية وإسلامية، حين يعترضون على بعض الأمور الخلافية التي فيها سعة وتيسير ومرونة.

رابعاً: أولادنا يتأثرون بالناس بنسب متفاوتة، وليس لكل فرد التأثير نفسه

وكلما زادت ثقتهم بطرف زاد تأثرهم به، وكلما تطاولت مدة اللقاء والمعاشرة مع جهة زاد الذوبان فيها.

والوالدان الواعيان يجعلان من نفسيهما موضع ثقة الأبناء والمثل الأعلى لهم، ويربطان الأبناء بالصحبة الطيبة والمعلمين الواعين وبكل من يثقون به، فيكون للوالدين (ولمن يثقان به) الحصة الأكبر من القوة والتأثير، ويتضاءل ما عداها من المؤثرات.

وإن الطفل يأخذ 90% من قناعاته قبل الخمس سنوات، أي حين يكون مع أمه في البيت، بعيداً عن البيئة المفسدة، فأسسي طفلك جيداً لكي يكون جاهزاً لخوض غمار الحياة القاسية، وسلحيه بإيمان عميق لكي يستطيع أن يجابه به شراسة المفسدين.

ولكي نزيد من تأثيرنا، يجب أن نحكي لأولادنا عن تاريخ هذه البلدان الغربية، وكيف وصلوا أصلاً لهذه القوة، وكيف نهبوا ثروات بلادنا وما زالوا، وكيف يفتعلون الحروب ويقتلون النفوس، ويأخذون الثروات ويتسببون لاقتصادنا بالخراب، ويعيشون هم في رخاء، يجب أن يعرف أولادنا التاريخ الأسود لتلك الدول الاستعمارية، وما تفعله اليوم من مجازر ومن اعتداءات…والهدف ألا ينبهروا بما يرونه من حضارة، وليعرفوا ما وراء الكواليس من حقائق صادمة.

خامساً: الاندماج المحبب والتفريق بين الزمالة العابرة والمجاملة وبين الذوبان أو الاتباع

 فالإقامة في البلاد الغربية ليست مؤقتة، بل أصبحت لبعض العائلات توطيناً وديمومة، وبالتالي ينبغي تحديد قواعد للتعامل مع الآخر، ويجب أن تكون كالتالي: ابني وبنتي سوف تشارك نفس المقاعد الدراسية مع الزملاء والزميلات الأجانب، وسيقرؤون نفس المقرر، وسيحضرون يومياً للصف معاً، وقد يتكلمون عن الموبايلات أو السيارت، أو بعض الأخبار العامة، وقد يتعرفون على بعض عاداتنا، ونتعرف على بعض أعيادهم… ولكن وبعد انتهاء هذا النشاط اليومي، يجب أن يكون أولادي من طريق وأولئك من طريق، فنحن مسلمون ملتزمون نؤمن بالله وبالإسلام ونصلي ونصوم، وهم: مسيحيون أو يهود… فالعقيدة تفرقنا، وإن جمعتنا الدراسة أو العمل.

وأما الأخوة والصداقات الحقيقية، فتكون بين أولادنا وبين الملتزمين أمثالهم. وقد يساعدنا على إقناع أولادنا بتلك الأفكار "العنصرية"! فالعنصرية التي باتت موجودة في مكان، قد تكون لخير، وقد تجعل أولادنا يوقنون أنهم لن يستطيعوا الخروج من أصولهم، وأنهم سيبقون منبوذين بسبب هويتهم… وبالتالي قد يجعلهم هذا يتجمعون على أنفسهم، ويتكافلون مع بعضهم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عابدة المؤيد العظم
أستاذة الفقه والشريعة الإسلامية
عابدة المؤيد العظم، مفكرة إسلامية وباحثة في الفقه وقضايا الأسرة
تحميل المزيد