من الشعر إلى السينما والمسلسلات.. كيف استُخدم الفن لخدمة المستبدين؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/29 الساعة 12:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/29 الساعة 12:27 بتوقيت غرينتش


المسيطر على الاقتصاد مسيطر على الثقافة.. وثقافة الطبقة السائدة هي المسيطرة

العفيف الأخضر

سواء في السينما أو التلفاز يُلاحظ في ربوع الوطن العربي الميل الواضح لدى معظم الفنانين لتأييد السلطة الحاكمة ودعمها، سواء بأعمال فنية أو عبر لقاءات إعلامية.

ففي مصر، وهي النموذج الواضح لتزاوج السلطة والفن، فإن جميع الفنانين- ما عدا قلة يعدون على رؤوس الأصابع وهم في الغالب خارج مصر- يتماهون مع خطاب الرئاسة، ويتغنون بإنجازاتها التي لا يراها سواهم، وجوقة التطبيل الشهيرة التي يتزعمها أحمد موسى، الإعلامي الشهير، بإبداعتها في تخصص التطبيل.

حرج لدى هؤلاء الفنانين في أن يتحدث الناس عنه بسوء، فمادام الرئيس راضياً فالأعمال لن تتوقف، والأموال كذلك، والعكس صحيح، فكيف إذا يقفون في وجه السلطة؟

قبل فترة خرجت الفنانة المصرية نجلاء فتحي تهاجم عادل إمام، وتتهمه بأنه "منافق وناشر للفساد وعميل للنظام"، التصريحات التي صاحبتها ضجة كبيرة، خاصة أنها من شخص من الوسط الفني، وموجهة لشخصية تعتبر أيقونة للفن في مصر.

ليست المرة الأولى التي يُتهم فيها عادل إمام بكونه عميلاً للسلطة، لأن الرجل وبكل بساطة شارك في بطولة وأفلام مثلت توجه الدولة، وفي هذا المقام لا يسعنا سوى التذكير بعمل أسال المداد، وتحدث عنه الناس، وما زالوا يفعلون، فكلما ذُكر تعامل النظام المصري مع جماعة الإخوان المسلمين والتوجه الإسلامي عامة إلا وذُكر فيلم "الإرهابي" أو "السفارة في العمارة".

 هذه الإنتاجات وغيرها كثير مثلت توجهاً واضحاً للسلطة المصرية في الإسلاميين الذين جسدهم الزعيم في ثوب الشرير أو الرجل المتشدد المستعد لفعل أي شيء مقابل الجماعة وأفكارها.

وفي المقابل وضع الشرطي والضابط كتجسيد للعدالة، ويسعى للعدالة، فالإسلامي يسعى للإفساد وتدمير المجتمع المصري، وخلق البلبلة والتمييز بين المسلمين والأقباط، بينما على الشرطة أن تحارب التطرف وتواجهه وتنتصر في النهاية، ونهاية معروفة لدى الجميع، حتى دون الحاجة للأفلام، فموقف السلطة سينتصر شئت أم أبيت، والعدالة ليست سوى ما تراه الدولة.

منذ نشأتها أول مرة لم يكن هدفها سوى السيطرة، وعبر بيوقراطية قوية استطاعت الدولة أن تتحكم في كل صغيرة وكبيرة، ولقد نُظر إلى كل فرد كان أو جماعة تسعى للاستقلال عن سيطرة أجهزة الدولة بريبة.

لم تظهر الدولة بهذا الشكل في الشرق إلا بعد الاحتلال الأجنبي، ففي المغرب مثلاً كانت القبائل مع بيعتها السلاطين تحتفظ باستقلالها عن السلطة في العاصمة، وحتى إنها تتجاوز هذه السلطة في كثير من الأحيان، وترفض الإذعان لقراراتها إذا ما تعارضت ومصالح القبيلة، وبرز مفهوم بلاد السيبة انطلاقاً من هذا، وهذا المفهوم يحيل إلى وجود قبائل مناوئة لسلطة الدولة، أو بالمعنى المتداول اليوم خارجة عن القانون.

ولنكون منصفين فلم يكن الشرق في حاجة للغرب كي تفرض فيه الدولة سيطرتها، فعلى مدار قرون طويلة من حكم الدول الإسلامية كان الاستبداد حاضراً، وحتى إن الغرب ومثقفيه لطالما وسموا المنطقة بالاستبداد والقمع، وخاصة ما نعرفه إذا ما تتبّعنا مفهوم "الاستبداد الشرقي".

وشيئاً فشيئاً اكتسبت الدولة في الشرق قوة الغرب، حتى أضحت نسخة مصغرة عنها، لكنها أشد بأساً، أو كما يقال "ملكيون أكثر من الملك"، فتخندقت الدول العربية في أساليب التنميط والسيطرة، ومنها من اختار الساحة الفنية كدعامة أساسية لتثبيت الرأي الواحد.

ومنذ زمن طويل اكتشف الإنسان قدرة الكلمات على إخضاع الناس، كما أدرك مقدرة الفن على تدعيم السلطة المركزية، ففي روما كما في بغداد كان الشعراء والفنانون أداة في يد الحاكم، يتغنون بقوته وعظمته، ولا يجب أن يغيب عنا في هذا الصدد موجة مدح السلاطين الإمارات العسكرية، في عهد الدول العباسيين، وخاصة "الحمدانية"، ولعل شهرة هذه الدولة في هذا المجال غير اهتمام أميرها "سيف الدولة" بالشعر والشعراء والثقافة عموماً، تعود دون شك لشعر الشعراء "أبي الطيب المتنبي"، والذي اشتهر بصحبته لسيف الدولة والأشعار التي قرضها مدحاً للرجل، ومن أشهرها:

" عَـلَى قَـدْرِ أَهـلِ العَـزمِ تَأتِي العَزائِمُ

 وتَــأتِي عَـلَى قَـدْرِ الكِـرامِ المَكـارِمُ

 وتَعظُـمُ فـي عَيـنِ الصّغِـيرِ صِغارُها

 وتَصغُـر فـي عَيـنِ العَظِيـمِ العَظـائِمُ

 يُكـلّفُ سَـيفُ الدَولَـةِ الجَـيشَ هَمّـهُ

وقـد عَجَـزَتْ عنـهُ الجُيوشُ الخَضارِمُ

 وَيَطلُبُ عندَ النّاسِ ما عندَ نفسِه

 وَذلكَ ما لا تَدّعيهِ الضّرَاغِمُ"

لم يكن الشعراء دائماً في خدمة السلطة، فعلى النقيض من المتنبي ظهر شعراء مناوئون للمركز، شحذوا أقلامهم وعقولهم لإيقاظ الشعوب وتزكية نار الثورة في المجتمعات، ولكهنم في المقابل وضعوا أنفسهم في فهوة المدافع، فكانت نهايتهم نهايات حزينة، أشهرها ما حدث مع الشاعر الإسباني "لوركا"، الذي وقف في وجه الديكتاتورية العسكرية المتمثلة في الجنرال فرانكو أثناء الحرب الأهلية 1936-1939، ليوقفه الأخير أمام جنود مسلحين أعدموه بينما يلقي آخر أشعاره، ومع أن الصورة المنتشرة له مشكوك في أمرها، إلا أن قصته حقيقية وطريقة إعدامه كذلك، والغريب أن السلطات لم تعثر على جثته بعد، وهذا ما تنبأ به قبل مقتله بكثير، يقول فريدريك لوركا:

"وعرفتُ أنني قتلتُ..

وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس

فتحوا البراميل والخزائن

سرقوا ثلاث جثثٍ

ونزعوا أسنانها الذهبية، ولكنهم لم يجدوني قط"

ومن أبي الطيب إلى لوركا وانتهاءً بفناني وممثلي اليوم، كان هم السلطة الأول هو جعل الكلمات والدلالات الإبداعية تحت السيطرة، فتارة فشل وأحياناً كثيرة نجح نجاحاً باهراً.

وليس الفشل حاصلاً إلا في الحالات النادرة ومع أشخاص بعينهم، وأما فيما يتعلق بالمؤسسات التي تسيّر الفن فهي في يد النظام، وحين ينفصل عن هذه المؤسسة فنان ذو رأي فآنذاك يأتي دور البوليس السري بمهمته التي قد تبدأ بالتضييق، وتنتهي بالاعتقال بتهم ملفقة كما يحدث مع كل معارض.

في عالمنا المعاصر نتحدث عن فن الراب كفن ظهر أول مرة كتعبير على اللامساواة، التي يتميز بها المجتمع الأمريكي، وهكذا حافظ على ماهيته بعد انتقاله للشرق ولعقود طويلة، كانت أغاني الراب صوت الشباب المضطهد ونبض الشارع، فالرابور ليس سوى ابن الحي الشعبي، وكلماته كلمات كل أبناء الحي، وليس الراب كغيره من الفنون، لأنه ببساطة لا يختار الكلمات لتعجب المارة، ويدهش بجمالها المستمع، إنما هي كلمات كصخر قاسية، بأسلوب سريع، ومعظمها كلام تتداوله الألسن الشبابية، وتتخللها كلمات نابية مختارة بعناية لتناسب النسق، وحتى لو قيل إن هذا لا يجب، أقول إن هذه الكلمات ذات دلالة قوية للغاية، ولا يسع الرابور أن يعوضها بأي كلمات أخرى، وكما قال أحدهم:

"يمكن عَبرت عن أرقى الأفكار بأوسخ الكلمات"

لقد كان هذا هو الراب الذي أعرفه، واليوم ماذا حدث؟

لقد تم تدجين مغني الراب، وعوض الغناء على مشاكل المجتمع ومواجهة السلطة بالكلام القوي الواقعي، نراهم يغنون عن المحبوبة وخروجها دون إذن، أو عن الحناء، وفوائد الحقبة السوداء، وعن كل شيء إلا عن أهم شيء؛ عن الشباب وهموم الشباب.

لا يمكن بأي حال أن نلوم هؤلاء الشباب، وحتى الممثلين، لأن المسألة تتجاوز أحياناً حد الشجاعة، فيضطرون تحت ضغط السلطة إلى التسليم والاستسلام، ولكن المطلوب منهم على الأقل كما فعل الكثيرون ألا يجتهدوا في التطبيل، وليبقوا في حدود المعقول، وعلى الناس أن تدرك أنه لا الفن ولا حتى الإعلانات باستطاعتها الإفلات من قبضة السلطة، ولهذا الحذر كل الحذر من التماهي مع الإعلام وتوجهاته.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي الرباج
كاتب مغربي
كاتب مغربي
تحميل المزيد