تحدّث عنه الأدباء كثيراً وتمادوا في طلائه بالأسود، صوّره الشعراء بأنّه شر لا خير يوجد فيه، امتلأت به كلمات الأغاني وخلفيات الهواتف وملصقات السيارات، أقام الجميع مؤامرة ضدّه، كأنّه عدو لدود لا بد من محاربته، أو فيروس خطير نحتاج إلى القضاء عليه والتحصّن ضده، جعلونا ننظر إليه من جانب واحد مظلم منه، وأخفوا عنّا جانبه المشرق، إنّه الفراق، ونعم له جانب مشرق، وليس هو النهاية كما تصورناه دائماً، بل هو البداية.
كم من مواطن مبدع نشأ في بيئة لم تقدره، ولم تنظر إليه، بل عيّرته بكل أنواع النواقص التي وجدت على سطح الكرة الأرضية، وحين رحل بدأت حياته، ودخل النور إلى نفسه فرأى ما لم يكن من الممكن أن يراه لولا الفراق، وحقق ما لم يكن من الممكن تحقيقه لو بقي.
كم من رجل أحبّ امرأة وكم من امرأة أحبّت رجلاً، ذلك الحب الذي مدحوه وجملوه، وأوغلوا في إظهار الجانب المشرق منه متجاهلين تماماً الجانب الآخر، عكس ما فعلوه تماماً مع الفراق، وفي الوقت الذي كان الحب يغرقهما حدّ الموت، أتى الفراق لينتشلهما إلى الحياة، وبعد أن أظهر الحب أنّه الخير أتى الفراق وأثبت أنّه لا خير سواه، فكان البداية لكل منهما في رحلتين منفصلتين إلى الأبد، رحلتين لو نجح الحب في توحيدهما لرحلة واحدة لهلك كل من فيها.
ما أجمل الفراق! نعم ما أجمل الفراق عندما فتح لي أبواباً ظننتها لا تُفتح، ما أجمل الفراق حين قادني إلى طريق أثبتت لي الأيّام أنّه الأفضل، الفراق جميل في كل تلك القصص التي جعل الكثيرين منّا شيئاً بعد أن كانوا لا شيء، حيث انتشلهم من مستنقعات القهر والذل والرفض الذي لا مبرر له.
لولا الفراق لظلّ الكثيرون منّا، وأنا منهم، في تلك المنطقة التي رأوها آمنة، لكنّ الأيام أثبتت أنّ ما كانوا بحاجة إليه ليس المكوث في منطقة الأمان، بل الصعود نحو الأفضل.
كان يجب أن أتصالح مع الفراق منذ البداية، من يحب أن يظل في حياتي سأحافظ عليه وسأتمسّك به، ومن يصر على الرحيل، ابتسم وافتح له الباب، ضع في بالك أنّه لا شيء ثابت، يا عزيزي لا يوجد على الكرة الأرضية شخص واحد فقط لترفض رحيله، فهناك غيره مئات الأشخاص، تصالح مع الفراق؛ من أراد أن يمضي دعه يمضي بسلام وامضِ أنت مثله قائلاً: (من التالي؟) فهناك من يأتي، وهناك من يرحل، وهكذا تستمر الحياة.
فراق الأماكن التي تؤذينا نجاة لنا، فراق الأشخاص الذين يذلوننا معزّة لنا، فراق الحبيب بداية جديدة لحياة أجمل.
عندما لم يجد الرسول، صلى الله عليه وسلّم، الخير في البقاء في مكّة فارقها إلى المدينة، لولا الفراق لما كنت أنت أنت، ولا كُنتُ أنا أنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.