"الشجرة الساقطة أكثر ضجيجاً من الغابة النامية".. هكذا رد أشهر فنان دي جي في الوقت الراهن عندما أرادت محاورته في قناة فرنسية أن تحشره في خانة "أبناء الضواحي"، المنحدرين في العادة من مهاجري شمال إفريقيا وإفريقيا السوداء، أي تلك الفئة الهشة التي تطولها نعوت نمطية، سواء من قبل جان ماري لوبان التي وصفتهم بـ"الصعاليك"، قبل أن يضيف نيكولا ساركوزي لذلك القاموس السمج، كلمة مستقبحة هي "الراكاي" وتعني "الحثالة".
لكن الدي جي سنايك، رغم أنه فرنسي يفاخر بوطنه، رد بطريقة "الثعبان" وهو يومئ بتلك الجملة، إلى أن الأوساط الإعلامية الفرنسية لا ترى في أبناء الضواحي غير قصص الإجرام واللصوصية والشغب، فتركز عليهم في أخبار الحوادث إثارة للضجيج الذي تخلفه الأشجار المتساقطة، لكنها لا تذكر شيئاً عن الملايين من أبناء الضواحي الناجحين والكادحين، الذين يستيقظون صباحاً للالتحاق بمناصب الكد والعمل، ويعافرون في سبيل النجاح ودفع الضرائب، ثم ينجحون في تحقيق منجزات عظيمة يعجز عن تحقيقها أبناء الأعراق النقية للبلد، والدليل، يضيف الرجل، "أنا".
حينما يقول الفنان الأكثر سماعاً ومشاهدة في العالم: "أنا"؛ فهو يعي ما يقول، فإذا كان زين الدين زيدان حظي بشرف رسم صورته على واجهة قوس النصر بأشعة الليزر، يوم فاز بكأس العالم 1998، فإن ويليام سامي إيتيان قريقا حسين، الشهير باسم دي جي سنايك، حظي بشرف آخر، حين قاده نجاحه الملياري الباهر إلى إحياء حفل بمنصة بلاتين فوق قوس النصر.
يومها قال: "لقد ذرفت دموعاً تحت نظارتي السوداء". فمن كان يصدق أن يصل ابن منظفة البيوت الجزائرية، إلى قبة المجد في ظرف سنوات من الحلم والشغف والكد، وغير ما مرة يذكرنا بقصة نجاحه المذهلة ما يقوله الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو: "إذا كنت حريصاً على أن تنجز ملحمتك الشخصية، فإن كل العالم سيطاوعك لتحقيق حلمك".
هو ذاته يلخص قصته عندما يلتفت للماضي الذي قدم منه معدماً قبل أن يغدو نجماً: "على ملايين الشبان أن يعوا شيئاً واحداً؛ أن يعملوا بجد وشغف وإصرار، هذا هو السر الأول والأخير الذي تكتب به روايات النجاح".
1/ الحلم.. باع الخضار في الأسواق لشراء أول آلة بلاتين
اكتسب ذلك الشاب المولود، من أب فرنسي وأم جزائرية عام 1986، في منطقة أرمون بالضاحية الباريسية، كنية غريبة هي السنايك أو الثعبان بسبب نجاحه في الإفلات من قبضة رجال الشرطة بعد تلطيخ الجدر برسومات الغرافيتي الملونة، ومنذ تلك الفترة لم تبارحه تلك الكنية رغم حياته المتقلبة من النقيض إلى النقيض.
ولد وترعرع في أحياء هشة بإرمون والفال دواز، وتربى على الهامش في شقة من شقق المجمعات السكانية المسماة "الهال"، ولم يكن ذلك لائقاً بحياة كريمة، فيما كان يسميه هو بالغيتوهات.
ثم إن والده تخلى عن العائلة وهو ابن السنتين، لتتكفل والدته برعايته رفقة شقيقه، متحملة عبئاً تنوء بحمله الجبال، فاشتغلت مرضعة ثم منظفة بيوت. وأمه ستتواطأ معه وهو يقرر في مرحلته الثانوية التوقف عن الدراسة والتفرغ لهوايته التي أغرم بها في تدوير أسطوانة البلاتين والديسك جوكي، فمنحته مهلة عام لتنفيذ حلمه، شارطة عليه العودة للدراسة في حال فشله، فانبرى مطارداً فرصته الذهبية، ولأنه كان فقيراً فقد قرر أن يشتغل في السوق حمالاً للصناديق بائعاً للخضار كي يقتني أسطوانة بلاتين، حتى إذا ما تدبر جزءاً من المال كانت هي تساعده بأوراق مالية وفرتها من عملها الدؤوب في تنظيف البيوت، لذا لن ينسى تلك الصور المنقوشة في ذاكرته إلى الأبد.
لم يتعرف الجزائريون عن أصوله سوى عندما نزل إلى إستاد القاهرة مرتدياً قميص أفناك الصحراء لمشاهدة نهائي الجزائر والسنغال في مصر 2019، ثم ليكرم بلد أمه فنياً أنجز قبل شهر كليباً مصوراً احتفى فيه بالجزائر بعنوان "ديسكو مغرب"، محققاً 40 مليون مشاهدة في ظرف أسابيع، وبارتفاع يقدر بمليون مشاهدة يومياً، لكن علاقته بوالدته شهدت حدثاً طريفاً؛ حيث قام بحظرها في حسابه على إنستغرام، حماية لها من تنمر السلبيين والشتائم التي تطالها عندما كانت تتكفل بالدفاع عنه من التعليقات المسيئة إليه.
2/ الأزمة.. مدخراته بلغت 80 يورو فكاد يتوقف عن الموسيقى
طالما يردد سنايك أنه عاش حياة تعيسة، وفي مجمعات سكانية قريبة من المحتشدات، بلا مصاعد وبسلالم متهرئة، تنبعث منها روائح العطن والأبوال، لذا سيسخر جهده لتحقيق حلمه في إنتاج الموسيقى، ولم يكن الأمر سهلاً البتة، فقبل انقضاء مهلة والدته كان يحبو أولى خطواته في مساره المهني بالدعوة للإنتاج في راديو أفجي.
لم يكتف الشاب بالعمل في الدي جي، بل عمل بائعاً للأقراص المضغوطة، وشيئاً فشيئاً بدأ في تنشيط الحفلات في الملاهي الليلية، ليتفاجأ ذات مرة بمنتج أمريكي معجب بموسيقاه، عارضاً عليه العمل معه، فطار إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فمكث هناك لفترة أنتج فيها أعمالاً للفنانة ذات الشهرة العالمية الليدي غاغا، وعن تلك الفترة يعترف بأن الأمريكيين صاروا يحترمونه كثيراً لأنه كان يفترش الأرض في الإستديو، ويتناول رفقة زملائه سندويتشات وينامون مكدسين في غرف فنادق وضيعة، ولقد سئل عن ذلك فأجاب: "كنت في بداية المشوار، ولم يكن معي المال الكافي، كان علي أن أتدبر الوضع، جئت لأمريكا للعمل وتحقيق الحلم لا من أجل التقاط الصور".
ذلك الحلم كاد يعطب تماماً بعد فشل تجربته الأولى مع الليدي غاغا، فعاد إلى فرنسا ليقضي عامين هما الأسوأ على الإطلاق، حتى إنه كان متهيئاً للتخلي عن عالم الموسيقى المعاند والبحث عن مهنة تحت الظلال للعيش، وقبل ذلك منح نفسه مهلة أخيرة هي أن ينتج مقطوعة موسيقية مع ليل جون قبل نهاية الصائفة، مقرراً التخلي عن الموسيقى بحلول خريف 2013، يصف ما وقع له: "اختليت طوال 3 أشهر داخل غرفة وحيدة للعمل نهاراً وليلاً، لا أخرج سوى لأخذ حمام في مسبح بولونيا، حتى إن مقتطع التذاكر ظن أني متشرد، وفي واقع الحال لم أكن أملك في حسابي غير 80 يورو فقط، بعدما صرفت كل ما لدي في الإيجار واقتناء متطلبات التسجيل، لكن آخر طلقة لي في عالم الموسيقى حققت لي غنيمة غير متوقعة بعد أن نشرتها عبر اليوتوب، ففي الرمق الأخير للصيف جاء الفرج، ومقطوعة "تيرن داون فور وات" تحقق رواجاً منقطع النظير، فتهاطلت علي العروض، واحتللت الصدارة في منصات أمريكية، فحصدت جوائز عالمية".
3/ الفرج.. 4 مليارات متابع، طائرة خاصة، وثروة بـ11 مليون دولار
حقق سنايك أول نجاح حقيقي له بعد 10 سنوات من المعافرة، وفي اللحظة التي كاد يسقط فيها؛ إذ سجل كليب "تيرن داون فور وات" مشاهدات وسماعاً خيالياً تجاوز 1.1 مليار مشاهدة، حائزاً الصدارة في الولايات المتحدة الأمريكية ومبيعات بـ10 ملايين نسخة.
وفتح له ذلك فرصة تقديم عرض كأول القائمة بأكبر مهرجان عالمي للدي جي في كوتشيلا بكولورادو الأمريكية أمام 300 ألف شخص، بيد أن الإعلام الفرنسي تجاهله تماماً، فأثر ذلك عليه كثيراً باعتباره أول فرنسي ينجح بهذه الطريقة المذهلة في أمريكا، إلا أنه لم ينكسر، بل قال: "علي أن أجتهد أكثر كي أثبت نفسي للذين تجاهلوني". ولم يتأخر كثيراً في تقديم عرض في أرينا ديفونس بفرنسا، محققاً رقماً قياسياً؛ إذ صار أول فرنسي يعرض في صالة تتسع لـ40 ألف شخص وبشبابيك مغلقة.
توالت نجاحات الثعبان بدءاً من ذلك العام وهو لا يتجاوز عمر 27 سنة، فتعامل مع كبار العالم مثل الليدي غاغا وجاستن بيبر، وتعاظمت شهرته بكليبات ذات موسيقى مدمجة ومتقنة تجمع الأنماط الغربية مثل البوب والهاوس والهيب هوب مع الديسكو والتكنو، فحققت مقطوعته "ليان أون" مع ماجور لازر نسب انتشار فلكية بـ3.2 مليار مشاهدة، أما مقطع تاكي تاكي مع سيلينا غوميز فحاز عام 2019 على 2.3 مليار مشاهدة، وجعله ذلك الانفجار يراكم الحفلات في ملاعب وساحات أمريكا وطوكيو والصين وفي شتى مدن أوروبا بحشود لا تقل عن 100 ألف نسمة في كل عرض، وشيئاً شيئاً احتل صدر مجلة فوربس للأثرياء ليحجز المركز 13 بين أغنياء الدي جي بثروة قدرت عام 2017 بـ11 مليون دولار، فيما لا يقل راتبه الشهري عن 900 ألف يورو شهرياً.
اليوم رغم أن هذا الأشقر هو الفنان الأكثر سماعاً عبر العالم بـ4 مليارات متابع، ولا يتوقف عن زيارة مدن العالم بواسطة طائرة خاصة، إلا أنه لا يكف عن ترديد كلمات في حق والدته وبأنها مصدر نجاحه الأول والأخير، وشريكة كاملة الحقوق في تحقيق حلمه. لا يزال يتذكر أنها كانت تصرف عليه طوال تلك السنة البيضاء التي بدأ فيها مشواراً كلفه 17 سنة للوصول للمحطة النهائية، كما لا ينسى أيام العسرة تلك؛ حيث كانت تنقله هو وشقيقه في دراجتها النارية للحاق بالمدرسة.
لذا لا يبدو الرجل خجولاً من ماضيه التعيس، بل على العكس تماماً؛ فهو يرويه في بلاتوهات التلفزيون كجزء مهم من حياته، كما لو أنه يبدو فقيراً سابقاً لا ثرياً جديداً، فأحياناً يقول: "المال يحقق لك الثراء والعيش السهل، لكن السعادة تكمن في مواطن أخرى من الحياة، جالست أثرى الأثرياء ودون أن أسميهم، فقد سبق لي أنا الذي عشت حياة الفقر والرخاء أن رأيت بعضهم يبكون أمامي لأسباب لا يجدون لها تفسيراً. أحياناً ما تراودني فكرة مجنونة خلال الحفلات الضخمة التي أحييها في عواصم العالم، كأن أتمنى مثلاً، لو أنني جالس أدردش مع أفراد العائلة، أو مع أبناء الحي والأصدقاء الذين ترعرعت معهم، خلال جلسة شواء باربكيو، هذه هي السعادة الحقة. عندما أرى ملايين البسطاء يكدحون في ورش البناء من أجل لقمة العيش أحمد الله بأني نلت ثمار 17 سنة من العمل والتضحيات".
لم تكن تضحيات فحسب، بل تحديات رهيبة، خاضها كما كان يجب أن تُخاض، فهذا الذي أرقصت موسيقاه عائلة الرئيس أوباما في البيت الأبيض، وتكفل بإعداد الموسيقى المرافقة لتقديم ليونيل ميسي لفريق باريس سان جيرمان. يتذكر أن مدرسته في التربية الموسيقية طحنته باحتقار واستخفاف يوم أن كان تلميذاً في الثانوي قائلة "ويليام أنت لم تخلق للموسيقى"، فانتظر ليرد عليها بعد عقد كامل، بتغريدة ساخرة نشرها، في 20 يناير/كانون الثاني 2012 في حسابه بتويتر، جاء فيها:
" أهدي ترشيح عملي لجائزة غرامي أوورد للعام 2012 لمعلمة آلة الناي التي قالت لي بأنني لم أُخلق للموسيقى"
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.