الإعلام ليس مجرد وسيلة لتبليغ المعلومة أو الترفيه، وليس وسيلة ربح وترويج للسلع التجارية. قبيل الحرب العالمية الثانية أصبحت الحكومات الغربية تتجه نحو استعمال وسائل الإعلام كسلاح من أجل تجييش شعوبها، وزرع نوع من النرجسية والفخر القومي لديها، وقد بدأ مفهوم الإعلام السياسي والحربي بالظهور والتبلور، خصوصاً مع "غوبلز"، وزير الدعاية النازي، لقد ركز (غوبلز) على جعل وسائل الدعاية سلاحاً لفائدة ألمانيا النازية، ولعل الفيلم الذي قام بإنتاجه قبيل الحرب، وهو فيلم يصور البولنديين كقُطاع طرق ولصوص ومغتصبين، نجح في جعل الشعب الألماني يتحمس لغزو بولونيا.
اليوم أصبح الإعلام سلاحاً فتاكاً، إلهاً إغريقياً يعصف بحكومات ويطيح بشركات كبرى، لكن التساؤل المطروح دوماً هل الإعلام حقيقةً هو انعكاس لصورة المجتمع، أم أن الإعلام صار يصوغ تركيبة المجتمعات واختياراتها الفكرية؟
عند مشاهدة برامج تلفزيون الواقع على سبيل المثال "عندي منقولك"، دائماً ما يردد المقدِّم أن مضمون البرنامج مردُّه حالات وقضايا مأخوذة من المجتمع، لكن هل الفعل الشاذ ظاهرة اجتماعية فعلاً؟، أم أن التركيز عليه وإبراز أصحاب بعض السلوكيات المنبوذة في الوجدان المجتمعي بمظهر الضحية؛ هو ما يجعل من هذه السلوكات فعلاً اجتماعياً مستساغاً ولو بشكل نسبي؟
هذا السلاح الناعم الصامت الذي يخترق بيوتنا دون أن يهدم جدرانها، بل هو يتلاعب بعقول ساكنيها، سلاح جذاب أنيق قد يأتيك في شكل رجل يلبس ربطة عنق أو امرأة فاتنة.
منذ سنوات كان مستهلك المواد المخدرة منبوذاً في وسطه الاجتماعي، مثله مثل السكير واللص وغيره، لكن عندما بدأت البرامج التلفزيونية التركيز على قضية استهلاك المخدرات، وهو فعل يجرمه القانون وتستهجنه العامة، أصبح مرتكب هذا الفعل يخرج لنا بصورة غير الصورة النمطية التي نعرفها، فأصبح المدمن ضحية للفقر والتهميش طوراً، ومبدعاً وفناناً لا يجد إلهامه سوى في سيجارته طوراً آخر، في ظرف سنوات قليلة، أو ربما أشهر، تمكن التعامل الإعلامي مع هذه المسألة من صنع رأي عام يدعم سلوكاً منبوذاً في السابق.. التركيز على أشخاص تضرروا بسبب الدخول للسجن في قضايا مخدرات.. تصوير فنانين أصبحوا من الأثرياء والمشاهير، وهم معروفون كمدمنين. كل هذا الطرح المتكرر للقضية من زاوية واحدة جعل المجتمع يتقبَّل المدمن ويتعاطف معه، بل يدافع عنه.
العنف، الجنس، المخدرات، الخيانة الزوجية، الانتحار.. مواضيع أصبحت وسائلنا الإعلامية تطرقها بصفة مستمرة عن طريق البرامج الحوارية والترفيهية والمسلسلات، البطل دوماً لصٌ مشاغب، تاجر مخدرات، فاشل دراسياً، خائن أو خائنة.. مع كل هذه الصفات الذميمة يضيف عليها المخرج صفات أخرى كالرجولة، طيبة القلب، القوة الجسدية، وجاذبية التحدُّث بلكنة ساحرة.. النتيجة هي أن المشاهد يقع في حب شخصية تلفزيونية يكرهها على أرض الواقع.
هذا هو سحر الميديا والإعلام، صناعة وإعادة تشكيل النمط المجتمعي، بل أحياناً خلق نمط وأسلوب عيش جديد، الفكرة الصادمة يرفضها المجتمع في البداية، ثم مع التكرار تبدأ موجة الاستهجان في التراجع لنتحول لمرحلة القبول ولربما الإعجاب.. إعجاب بماذا؟ بما كنا سابقاً نرفضه رفضاً قاطعاً، ما لم يستطع الاستعمار والقوة العسكرية فعله من تغيير ثقافات الشعوب عبر عقود، تمكنت الإمبراطوريات الإعلامية من فعله في ظرف سنوات.
هذا السلاح الناعم الصامت الذي يخترق بيوتنا دون أن يهدم جدرانها، بل هو يتلاعب بعقول ساكنيها، سلاح جذاب أنيق قد يأتيك في شكل رجل يلبس ربطة عنق أو امرأة فاتنة.. المجتمعات صارت تتشكل من جديد وثقافتها أصبحت تصاغ في مخابر المؤسسات الإعلامية الدولية والمحلية.. كم أتمنى أن نعود لزمن البرامج التربوية الهادفة الجميلة التي تصقل شخصية الأجيال وتنميها، لكن هيهات، فالوقت اليوم غير الوقت الذي مضى..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.