من المؤسف حقاً أن الجدل الفكري حول جرائم القتل التي تحدث ضد المرأة تأخذ ذات المنحى دائماً؛ وهو أن ينتهي بالاستقطاب بين جماعة "السبب هو البعد عن الدين" وجماعة النسوية والليبرالية الغربية.
نادراً ما تجد أفكاراً تلمس فيها الأصالة والعمق في مقاربة هذه المسألة الهامة في المجتمع العربي المعاصر، وإن وجدت فلا تصل غالباً الى الإعلام السائد، ولا تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، وما ينتشر غالباً هي الأفكار المكرورة لأحد طرفي الاستقطاب.
سأحاول في هذا المقال تبيان بعض مشكلات هذين الخطابين السائدين وأهمية كسر الجمود الحاصل في هذا الجدل.
الخطاب التقليدي المحافظ
المشكلة الأولى والرئيسية في الخطاب التقليدي المحافظ هي باختصار دفن الرأس في الرمال، وإنكار حجم أو صعوبة المشكلة. هذا الخطاب لا يعترف بشكل أساسي بأن هناك ظلماً اجتماعياً كبيراً واقعاً على المرأة في المجتمعات العربية المعاصرة.
رأس هرم هذا الظلم هو جرائم القتل والاغتصاب والعنف الشديد التي نسمع بها، وهناك الجزء الصامت والأكبر بكثير والمتمثل بالتحرش والاستغلال والاغتصاب والعنف وسوء المعاملة وتقييد الحرية وغياب العدالة.
وإذا اعترف بعض أصحاب هذا الخطاب بوجود المشكلة فهم على الأقل ينكرون حداثة المشكلة وتعقيدها، فهي دائماً بسبب البعد عن الدين.
والإنكار له أوجه أخرى، منها اعتبار هذا العنف حالات فردية من الابتعاد عن الدين أو اعتبار أن وضع المرأة في المجتمعات المسلمة يظل أفضل من غيره في مجتمعات أخرى على كل حال- وهو غير صحيح.
المشكلة الثانية في الخطاب الديني التقليدي هي الضحالة الفكرية بالاعتقاد بأن الالتزام الديني أو تطبيق الشريعة بصورتها التقليدية سوف يحل المشكلة. هذا التسطيح للمشكلة سببه جزئياً كسل فكري في فهم المشكلة وجذورها، والاكتفاء بالعلوم الشرعية وعدم الاكتراث بالعلوم أخرى ذات الصلة بالمشكلة. ولا يخلو الأمر أيضاً من شيء من الاستغلال للجرائم الواقعة على المرأة لاستدامة أفكار تقليدية محافظة لاعلاقة لها بالدين.
الفكر المتأثر بالليبرالية الغربية
في المقابل، المشكلة الرئيسية في أصحاب الفكر التحرري المبني على الليبرالية الغربية هي العجز عن فهم خصوصية المجتمعات العربية وبنائها الأخلاقي المختلف جذرياً عن المجتمعات الغربية. وهذا يعني أن استيراد أفكار جاهزة ومعلبة كالنسوية والمساواة الغربية إلى المجتمعات العربية- سواء أعجبتنا الأفكار أم لا- غير قابل للنجاح في المجتمعات العربية.
المشكلة الأخرى عند جماعة الأفكار الليبرالية الغربية هي أنهم- سواء بقصد أو بدون قصد- يعملون على تكريس التبعية الاستعمارية للغرب ويقوّضون إمكانية التحرر السياسي وإمكانية النهوض الحضاري وكسر قيود التبعية للخارج.
وهذه هي الأسباب التي تحتِّم علينا أن نرفض اتفاقيات تُملى من الخارج مثل "سيداو" مهما بدت برّاقة، فهي من جهة غير ناجعة لأنها لم توضع مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المجتمعات العربية ولأنها من جهة أخرى تمثل الهيمنة الثقافية الغربية وبالتالي تؤدي إلى ترسيخ التبعية.
الطريق الثالث وكسر الجمود
من هنا فإنه من الضروري أن يتطور الجدل نحو طريق ثالث يكسر الجمود القائم في الجدل حول حقوق المرأة. سأحاول هنا أن أضع بعض الأفكار الأساسية حول طبيعة هذا الطريق الثالث وكيفية مقاربة المشكلة دون أن أتطرق إلى أية حلول لمشكلة العنف أو مكانة المرأة.
أولاً: علينا أن نعي أن العنف ضد المرأة مشكلة حقيقية ومتفاقمة إلى حد كبير وهي أيضاً جزء لا يتجزأ من حالة الانحطاط الحضاري والثقافي الذي تعيشه المجتمعات العربية المعاصرة، وجزء من حالة أوسع من الظلم الواقع على جميع أبناء المجتمع. وبالأخص فإن الحروب والانحدار الكبير سياسياً واقتصادياً في الدول العربية في العشرين سنة الماضية كانت الأسوأ على الإطلاق.
ثانياً: يمكن توصيف العنف والظلم الواقع على المرأة بأنه نتاج حالة نفسية اجتماعية لها جذور في اختلال التوازن الاجتماعي في دور المرأة والرجل في المجتمع. وهذه إشكالية تتطلب جهداً طويلاً وذكياً لعلاج هذه الحالة النفسية الجماعية. والحل ليس بسهولة نسخ ساذج لأفكار وحلول من الماضي أو من مجتمعات الأخرى، بل هو بحاجة إلى جهد من الدراسة والبحث تقوم به نخب قيادية وعلمية تقودنا إلى فهم أعمق لجذور المشكلة وإيجاد حلول لها.
ثالثاً: المجتمعات العربية متديّنة بطبيعتها وهذه سمة ثابتة فيها منذ نشوئها حتى اليوم. هذا يعني أن الحل يتطلب الاستعداد لعملية إصلاح عميقة في فهم الدين والفقه الإسلامي والقوانين والأنظمة المبنية على الشريعة الإسلامية. وأذكر الإسلام هنا تحديداً لأنه دين الأغلبية، ولكن هذه المقاربة تنطبق أيضاً على المجتمعات الدينية الأخرى في العالم العربي.
ولكن هناك عقبات كبيرة تقف في طريق الإصلاح الفقهي الحقيقي في الإسلام؛ ليس أدلّ على ذلك من حالة الجمود في الفقه الإسلامي منذ قرون طويلة. لكسر حالة الجمود هذه نحن بحاجة لنخب فكرية إسلامية مجدّدة لديها القدرة على إحداث التغيير المطلوب. ولكن ظهور مثل هذه النخب الفكرية والدينية المتمكنة مرتبط بالسياسة. فالتمكين السياسي ضروري جداً. وفي ظل حالة الفساد السياسي السائد، فإن النخب الدينية القائمة تظل أداة تثبيت للأنظمة السياسية والطبقات المستفيدة من الوضع القائم. وهذا يبين أهمية الإصلاح السياسي كشرط للإصلاح الفكري والديني.
وهناك عقبة أخرى ثقافية غير سياسية وهي الاعتقاد العام السائد بأن الإصلاح الجذري للفقه الإسلامي فيه تطاول على ثوابت الدين من الأفكار الأساسية التي تعين على تخطّي هذه العقبة والإدراك أن علم أصول الفقه والفقه الإسلامي والتشريعات المفصلة وضعت من قبل بشر. وضعها علماء أجلّاء كالشافعي وابن حنبل وغيرهما أثناء عصر التدوين قبل 12 قرناً.
وهذا الجهد العظيم هو أساساً عمل بشري يصلح لعصره وقابل للتجديد وليس عملاً مقدساً جامداً خارج التاريخ كما يظن كثير من علمائنا اليوم. ونحن بحاجة إلى فهم جديد وتطوير عميق للفقه الإسلامي يناسب المجتمعات العربية المعاصرة ويستفيد من التقدم الكبير الذي حصل في العلوم الأخرى غير الشرعية. نحن بحاجة إلى علماء قادرين على فهم التقدم الكبير في علم النفس والاجتماع والقانون وغيرها من العلوم المعاصرة، ولديهم الشجاعة والقدرة التي كانت لدى الشافعي، رحمه الله، في وضع أسس جديدة للفقه الإسلامي.
رابعاً: أي حل ناجع لهذه المشكلة يجب أن يكون أصيلاً ومحلي المنشأ. هذا لا ينفي إمكانية التأثر بالفكر الإنساني أياً كان. وبالأخص عن طريق نقل العلوم والتجارب الإنسانية. ولكن تظل التجربة الإنسانية لمجتمع ما فريدة ولها خصوصياتها.
أخيراً، قد يبدو هذا المقال متشائماً إلى حد ما لأنه لا يرى حلولاً سريعة لمشكلة العنف ضد المرأة. لا مناص بالطبع من اللجوء إلى تطبيق القانون وتغليظ العقوبات كحلول على المدى القصير، ولكن الحلول الجذرية تحتاج أولاً إلى تصحيح مسار الجدل الفكري القائم، والبدء بعملية تطوير لقوانين تصلح لمجتمعاتنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.