الغربة صعبة لكنها لم تعد كربة!

عدد القراءات
1,690
عربي بوست
تم النشر: 2022/06/28 الساعة 09:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/28 الساعة 13:51 بتوقيت غرينتش

كلما عدت إلى الجزائر زائراً، أجد نفسي أخوض مع الأصدقاء والزملاء في موضوع الهجرة وفرص العمل في الغربة وظروف الحياة بعيداً عن الوطن وتداعياتها على حياتنا وأولادنا، وإيجابياتها وسلبياتها، خاصة في هذا الزمن الذي لم تعد فيه مغادرة الأوطان خيانة وهروباً مثلما كان الاعتقاد سائداً، ولم تعد في نفس الوقت سهلة ومتاحة للجميع بسبب تضاؤل فرص العمل في الخارج لأسباب مختلفة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية مرتبطة بالوطن الأم، أو الأوطان المستفيدة من الكفاءات والأيدي العاملة، خاصة في مجال الإعلام الذي يبقى أكثر القطاعات استقطاباً لها في ظل التحولات التي يشهدها العالم ورغبة الأجيال المتعاقبة في خوض تجارب جديدة تسمح لها بتطوير مهاراتها وتحسين ظروفها الاجتماعية والمادية.

رغم قصر المدة التي قضيتها في الجزائر قبل أيام، فإن لقاءاتي مع الزملاء الإعلاميين والإطارات الرياضية كانت كثيرة، أغلبهم يسأل عن فرص الالتحاق بقطر  ودول الخليج، مثلما هو الحال بالنسبة لأمثالهم في بلدان شمال إفريقيا ومصر والسودان وسوريا ولبنان والعراق وغيرها من البلاد العربية، هروباً من أوضاع اجتماعية ومادية ومهنية صعبة، وبحثاً عن آفاق جديدة لممارسة المهنة في ظروف أفضل، وهو الأمر الذي لم يكن شائعاً بشكل أكبر قبل سنوات، ربما لأن ظروف هؤلاء وأولئك كانت أفضل ولم تكن الحاجة ملحة للهجرة، أو ربما لأن نزعة الجيل الحالي نحو الهجرة أكبر بكثير مما كانت عليه الأجيال السابقة التي كان يقتصر فيها الأمر على المضطرين مهنياً، أو أصحاب المواقف السياسية الذين عانوا التضييق والملاحقات البوليسية فلجؤوا مضطرين إلى بلدان أجنبية احتضنتهم.   

الهجرة الاضطرارية كانت سائدة زمان بشكل أكبر مما هي عليه اليوم؛ لذلك كانت الاختيارية تعتبر خيانة للوطن وهروباً منه، قبل أن تتحول اليوم إلى أفضلية وخيار ضروري عند الكثير  من الشباب العربي، فيه منفعة حتى للأوطان التي تستفيد من تحويلات مهاجريها في تمويل مشاريعها وتنمية مختلف قطاعات الحياة فيها، وصارت امتيازاً يسعى لتحقيقه صاحب الحظ الوفير  في ظل تزايد الرغبة فيها، وتدفع إليها الكثير من الأسر والأولياء الذين كانوا زمان ينشغلون ويقلقون على أولادهم في الغربة، قبل أن تنعكس الآية ويصبح المغتربون أكثر انشغالاً وقلقاً على أسرهم في أوطانهم بسبب الظروف المعيشية والأمنية والاقتصادية الصعبة لبعض البلدان رغم توفرها على كفاءات في مختلف المجالات لم تجد فرصتها في تحقيق ذاتها والمساهمة في بناء مجتمعاتها.

في كل الحالات لم تعد الغربة كربة كما كانت زمان في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد العربية والمشاكل السياسية والطائفية التي دفعت الجيل الصاعد إلى البحث عن حياة أفضل يفتقدها، بل تحولت إلى منحة لصاحبها وأهله وبلده، ومنحة للبلد المضيف الذي يستفيد من تجارب وخبرات وكفاءات لا يتوفر عليها، لدرجة تحول الأمر إلى ضرورة لا بد منها في نطاق عولمة تجاوزت حدود الجنس واللون والجنسيات والأعراق، وراحت تثمن الكفاءة والجدارة مهما كان مصدرها، مستفيدة من تزايد الطلب وتوفر الخيارات، فصارت تنتقي الأفضل بأقل تكلفة، ينتفع بهم أبناء البلد الذين يستفيدون بدورهم من تجارب مختلف الخبرات.   

صحيح أن الاغتراب والابتعاد عن الأوطان والأهل والأحباب صعب حتى وإن كان اختيارياً وليس اضطرارياً، لكنه تحول مع الوقت إلى منحة وفرصة لتحسين ظروف المغترب وأسرته، وحتى بلده لما يكون شرعياً وقانونياً وفي ظروف أفضل، أما في حالة الهجرة غير الشرعية التي تزايدت في الفترة الأخيرة فإنها تتحول إلى نقمة على المهاجر وأسرته وبلد الهجرة، وهو ما يستدعي تضافر جهود الجميع للحد منها عن طريق توفير فرص عمل لمن لا تتوفر فيه شروط الهجرة إلى الخارج، ولا تتوفر لديه الكفاءة والخبرة المطلوبة سواء في أوروبا أو أمريكا أو كندا، أو حتى دول الخليج التي تحولت  مع الوقت إلى قبلة للكثير من المهاجرين من شمال إفريقيا الذين كانوا يقصدون أوروبا، قبل أن تتغير البوصلة باتجاه قطر والإمارات والسعودية والكويت التي يشكل فيها عامل اللغة والدين فارقاً كبيراً في الاختيارات عندما تكون متوفرة.

هجرة الشباب العربي اليوم نحو البلاد العربية لم تعد غربة، ولم تعد في زمننا اضطراراً ولا اختياراً؛ لأن المضطر والراغب على حد سواء  قد لا يجدان سبيلاً لذلك لأسباب موضوعية أكثر منها ذاتية تتعلق بالبلد المستقبل الذي لم يعد قادراً على استيعاب كل الراغبين فيه، لذلك علينا أن نتفهم المهاجر وبلد الهجرة على حد سواء، ونفهم أن الشعور بالاغتراب داخل الوطن الأم هو أكثر ألماً وضرراً منه خارج الوطن، وأنا شخصياً أعيش في قطر منذ أربعة عشر عاماً، لكنني لم أعد أشعر بالغربة رغم اشتياقي لأمي وأهلي وأصدقائي وكل شيء في بلدي، ولا أشعر بأنني غادرت وطني؛ لأنه يسكنني ولن يغادر كياني مهما حصل. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حفيظ دراجي
المُعلق الرياضي الجزائري
إعلامي شهير، ومُعلق رياضي جزائري.
تحميل المزيد