يلخّص د. رفيق عبد السلام غايته من إعادة النظر في مفهوم الحداثة في مقدمة كتابه "الإله والمعنى في زمن الحداثة"، بأنها محاولة "تحرير الحداثة من سردياتها الكبرى التي أسرتها لعقود طويلة، لصالح قراءة أقل وثوقية وأكثر تحرراً وانفتاحاً، بما يتيح فتح أبواب الاجتهاد في الحداثة، وتحرير بواعث العزم وممكنات العمل خارج إطار الخطاب المهيمن". صدر الكتاب حديثاً عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، لبنان، 2022.
ما يستدعي الانتباه أن الباب الذي يطرقه الكاتب يمثل تحدياً، لأن العناوين الفرعية المخبأة داخل العلاقة بين الإله/الدين وعملية إنتاج القيم وعلاقته بالحقيقة يسائل معه قيمة التراث بالنسبة للحاضر، والعلاقة بين الأنا الذي يمثل الإسلام في تقابل مع الآخر الغربي المهيمن وفقاً للسردية التي يتبناها الكاتب.
ثمة أسباب رئيسية تجعل من الكتاب بوابة لمساءلة الراهن وفهم التحولات التي تحدث في العالم العربي الآن، ومنها صدوره عن أحد الفاعلين البارزين فيما يسمى تيار الإسلام السياسي، والذي لعب دوراً رئيسياً في التغيّرات الاجتماعية والسياسية بعد ثورات الربيع العربي. تولّى رفيق عبد السلام مسؤولية العلاقات الخارجية في حركة النهضة التونسية، وكان رئيس خارجية تونس عقب الثورة.
تفسر اهتمامات الكاتب السياسية أنه وبرغم طرق أبواب الفلاسفة الأموات والالتحام مع أفكارهم النظرية، لكنه لم يتجاوز حدود البناء الأيديولوجي، أي محاولة استيعاب معنى التراث والعلاقة مع الآخر في أنساق آلية تدعي بناء الوحدات وإقامتها. يبدأ العمل النقدي عند الكشف عن الفجوات في الوحدات المتخيلة، وتلك هي السمة الرئيسية للتفكير المعاصر، هذا الانفتاح على اللاتناهي كما يؤكد هايدجر.
تناول الكتاب في قسمه الأول موجزاً لمرحلة تكون الحداثة الأوروبية ومحاولات الاستجابة التركيبية مع الحركة الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر. ومع أوجه القصور والضعف في خطابها، إلا أنها تعد محطة أساسية في ولادة مشروع حداثة إسلامي. واللافت للنظر أنه لا يمكن إنكار الجهود التي قام بها الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم في مجال التراكم المعرفي، وهذا مهم في تمكيننا من توقيت زمننا التّاريخي. ينطلق الكتاب من مقولة أساسية، وهي أن تعثر الحداثة في العالم الإسلامي يعود إلى اعتبارات خارجية، الاستعمار والأوضاع الاقتصادية والمانع أمام دخول الحداثة ليس بسبب اعتبارات فكرية وثقافية.
بالنسبة للكاتب فقد تمرس الجيل الأول من المفكرين الإسلاميين بالمقولات الأساسية للحداثة، لكنهم لم يمتلكوا القدرة السياسية على الفعل، ثم ضاعت الجهود نتيجة التشتت السياسي والقوى القمعية التي حدّت من قدرته على التطور فضاع في معادلة دولية أضخم من قدرته.
ما نتوقف عنده أننا حتى تلك اللحظة لم نقف على تعريف واضح للحداثة، فهي كمفهوم هلامي لا يقبل التحديد، ولا أعتقد بعكس د. رفيق عبد السلام أنه يمكن الوقوف عند لحظة تأسيس معينة لما يطلق عليه حداثة إسلامية، فبالرغم من تطور الحداثة في الغرب عبر سيرورة من التغييرات أحدثت تحولاً في بارادايم الفكر الأوروبي. كان مصطلح الأزمنة الحديثة مألوفاً في فرنسا وإنجلترا خلال القرن الثامن عشر، للإشارة للقرون الثلاثة السابقة، والتي شهدت اكتشاف العالم الجديد، وعصر النهضة والأنوار. ويعد "هيغل أول فيلسوف أقام فلسفياً القطيعة بين الحداثة والإيحاءات المعيارية للماضي". ذلك أنه استوعب الحداثة باعتبارها روح الحقبة الجديدة. وذلك مثل مرحلة وعي الحداثة بذاتها. قبل هيغل استوعب كانط العالم الحديث في بناء فكري، كمرآة تعكس سمات عصره.
ويشرح هيغل انطلاقاً من مفهوم الذاتية كيف أن تفوق العالم الحديث وفي الوقت نفسه هشاشته يجعلانه عرضة للأزمات، فهو عالم التقدم والصناعة والتوسع في ملكات الإنسان وقدرته، فإنه عالم يستلب فيه الوعي عن ذاته لهذا جاءت صياغته للحداثة مفاهيمياً للمرة الأولى، وسعيه إلى نقدها. كانت مفاهيم مثل العقلانية، الفردانية، الذاتية، الحرية تحمل مضامينَ أخلاقية باعتبارها مصدراً للخير. لكن منذ القرن التاسع عشر لم تتوقف الحداثة عن أشكلة ذاتها بسبب التحولات السيسيولوجية الشديدة التي مر بها المجتمع الغربية نتيجة المسار الآخر الذي اتخذته الحداثة. في الجزء الثاني يتناول أهم مدارس الفكر الغربي، بدءاً من نيتشه وماكس فيبر، ثم المدرسة التفكيكية بمختلف تعبيراتها واتجاهاتها، ثم انتهاء بالفيلسوف "المحافظ" ماكنتاير، الذي يتسم فكره بنقد الفلسفة الليبرالية، يؤكد على مركزية الفضيلة في الاجتماع السياسي.
"لم تستشرنا الحداثة، ولم تطلب رأينا قبل أن تدهس بابنا، لأنها لم تسلك يوماً منطق الاستشارة والاختيار. فهي أشبه بنهر هائج وكاسح، لا يبقي ولا يذر، يجرف كل شيء في طريقه".
– الكاتب والمفكر محمد سبيلا
الحداثة باعتبارها تجاوزاً مستمراً، قطيعة دائمة، وتنكّر مستمر لذاتها وتوازناتها الداخلية نحو أرض جديدة أكثر توتراً. لم تدخل إلى العالم العربي بهذا الاعتبار، وإنما ترافق انفتاح العالم العربي عليها مع الاستعمار، القوة التكنولوجية والآلة العسكرية الرهيبة للإمبراطوريات الكبرى. ومن ثم كان هناك فرق بين مفهوم مثل الحرية الفردية وبين الحرية بمعناها السياسي. كما أن البلدان العربية فشلت في مراكمة رأس المال ومواكبة قوة أوروبا الصناعية في ذلك الوقت.
يمكننا أن نصف الحضارة الإسلامية بأنها حضارة سبق عصر أنوارها عصر ظلمها، لكن د. رفيق عبد السلام يجادل بإمكانية وجود أفق للتغيير واللحاق بالعالم، فنحن لسنا مشاهدين عميان في مسرحية صامتة.
لكن ما فهمته أن الكاتب يستخدم -نتائج- الانتقادات الغربية لنمط الحداثة الغربي، لكي يطرح مسألة البديل الإسلامي كخيار بديل للمجتمعات العربية، وهو ما فيه الكثير من الطوباوية.
ما يقصده رفيق عبد السلام بالحداثة حقاً هو نفس الخطأ الذي أصاب الذهنية العربية مع حركة الإصلاح الأولى. يمكن لدولة مثل الولايات المتحدة أن تكون حديثة وعقلانية، في الوقت ذاته تنادي بالديمقراطية والحريات. بنظرة سريعة على تطور الصناعات السريع في ألمانيا واليابان قبل الحرب العالمية الثانية بأن هناك إمكانية للتحديث دون اتباع مبادئ الحداثة الفكرية، ودون أن نكون في دول ديمقراطية مثل التجربة الصينية حالياً.
ما أحاول فعله هو توسيع وتدبير الأسئلة، لأن العقل السياسي ما زال يطرح مسألة الهوية ويتفاعل مع الآخر عبر الخير والشر، وكل تفكير نقدي حقيقي يبدأ فيما وراء الخير والشر. فبدون استيعاب منجزات الحضارة الغربية الثقافية والانخراط في نقاش مع الذات فنحن اعتدنا ألا نرى إلا الحوار مع الآخر يعيد طرح الأسئلة القديمة، أملاً في اكتشاف إجابة ما مخفية وضائعة في عباءة الماضي، وهو عكس مضمون الحقيقة كخلق واكتشاف وابتكار جديد. بالنسبة لي كل حوار هو انفصال عن الذات أولاً، ما يعني أننا بحاجة إلى إحداث خلل في العلاقة التي تربطنا بالتراث. ربما ما يعده رفيق عبد السلام نتيجة حتمية للتحولات التي يمكنها أن تحدث عبر استيعاب آليات التحديث الغربية، والتي ستجلب معها تقدماً اقتصادياً واجتماعياً، وتُسهم في حداثة سياسية حقيقية لا يعد سوى حلم طويل من أحلام السلفية المقنعة، التي لا ترى ضرراً من استغلال منجزات الحداثة التقنية في مقابل انتقاء بعض الأفكار، كأننا في سوبر ماركت، نملك الاختيار من الأساس، ولسنا منخرطين في الحداثة دون مساهمة منا.
الحداثة هي اللحظة الراهنة التي نمثل بالنسبة للعالم الغربي أطرافها. هناك شق من الحداثة يتعلق بحقوق المرأة وحقوق الإنسان وتأطرها قانونياً لحمايتها وتنميتها، فالحال أن الفرد العربي لم يعقه الاستعمار فقط، ولم يصطدم بالقمع السياسي فقط، وإنما ظل فكره عاجزاً عن طرح الأسئلة الصحيحة، واهتم بالتراكم، ولم يتحول هذا العدد الضخم من الأبحاث إلى كيف، وإنما أعاد تدبيج "اليَنبغيات" ولم يتخلص من انحيازاته، وفشل في إدراكها، وتحدث كثيراً دون أن يعي أنه ينطق بلسان الإكراه الأيديولوجي الخفيّ، كما يقول ألتوسير.
"نحن لسنا في بداية طريق الحداثة، إذ إننا نقف منذ مدة طويلة تحت شجرة الحداثة بانتظار سقوط ثمارها".
– د. رضا داوري
تظل محاولات الخروج من الأفق المسدود، محاصرة داخل مصطلحات الإحياء والبعث والعودة، وهو ما يجعل للقديم سلطة مركزية على الحاضر. ولقد أثبتت تجارب الإسلام السياسي في العالم العربي بقدرتها على الحشد والتعبئة كقوة أيديولوجية، لكنها عاجزة عن تطوير أدوات التحليل النقدي، وما زالت تعيد إنتاج نفسها عبر الأسرة والمؤسسات الرسمية والخطاب العام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.